الثلاثاء، 23 أغسطس 2011

الجنية بين بدر بن عبد المحسن وغازي القصيبي








وضع الدكتور غازي القصيبي من خلال ''الجنية'' نصا فتح الأسئلة الأسطورية حول شغف الجن بالإنس. وهي حكايات تتجاوز منحى التسلية إلى فتح هذا الملف الذي يستوطن المخيال الشعبي بشكل يقيني. عالج القصيبي الموضوع كعادته من خلال لغة سهلة وواضحة.
وفي نفس السياق تابع المشاهدون ''توق'' بدر بن عبد المحسن، التي تحدث عنها البدر طويلا، وتراوح الحديث عنها في أكثر من تصريح باعتبارها رواية أو مسرحية، لكنها ظهرت كمسلسلة تأخذ بعدا أعمق، فهو من خلال الجنية توق يعاود محاكاة التاريخ خلال الحقبة العثمانية وينتقل من خلال هذه الرواية بين الجزيرة العربية والشام.
وإذا كانت جنية بدر بن عبد المحسن قد اختارت سالم وهو طفل رضيع، وقررت أن يكون بالنسبة لها زوج المستقبل، فإن غازي القصيبي اختار لجنيته جغرافيا ومساحة أخرى هي المغرب. كان عليه أن يوجد مصادفة كي يلتقي من خلالها الطالب السعودي المبتعث إلى الخارج بالجنية خلال رحلته الجوية عائدا في إجازة.
اللافت في جنية غازي القصيبي وجنية بدر بن عبد المحسن، مساحة الشد والجذب التي استوطنت النصين. وهذه الأمر يمكن رصده في الواقع، إذ حتى العقلاء يستحضرون أحيانا حكايات الجنيات ولكنهم دوما يختمون أحاديثهم بالتأكيد على أن الأمر ليس أكثر من تخاريف وخيالات.
ما يميز ''توق'' أن النص يلمس بشكل لطيف، عددا من ملامح مرحلة تاريخية خصبة، ولعل هذا التناول من خلال نص محلي يكون نقطة بداية لصياغة تاريخنا من خلال مثل هذه الحكايات المشوقة.

الخميس، 11 أغسطس 2011

توفيق الحكيم وعودة الروح المصرية المتجددة


في الفصول الأخيرة من رواية عودة الروح، لتوفيق الحكيم التي أنجزها في باريس عام 1937، تظهر صورة من صور الثورة التي شهدتها مصر أخيرا. ربما تغيرت الشخوص لكن من المؤكد أن الصورة ذاتها والروح نفسها قد تلبست جيل  يناير.

شيء واحد كان ينقص الحدوتة التي أتقن توفيق الحكيم صياغتها، البطل أو الزعيم الذي يعيد صياغة آمال الناس. تواردت هذه الخواطر في ذهني وأنا أعيد قراءة الرواية، بعد أن نبهني الصديق الدكتور أنس الحجي خلال زيارة له للرياض مؤخرا إلى جوانب التشابه بين الثورتين، واستشهد بالرواية.
 
الرواية طويلة نوعا ما وهي من قسمين، وقد شعرت وأنا أقرأ فصول الرواية بارتياب في حكم الدكتور أنس، خاصة أنني أنهيت ثلاثة أرباع الرواية ـ بقسميها ـ ولم أجد خيطا يربط بين ثورة 25 يناير والرواية، لكنني في الفصول الأخيرة بدأت في التقاط المقارنة الصادقة. 
هو جيل عادت له الروح، التي كانت ولا تزال تتغلغل في الإنسان المصري منذ آلاف السنين، هذا ما تقوله الرواية.
إنه شيء يشبه السحر، ذلك الإندفاع الذي يحرك الناس، فيتحولون من حالة التصالح والتراضي مع النفس إلى حالة التلاقي عند هدف واحد يجد الناس أنفسهم مندفعين تجاهه بإصرار، يجعل الصورة تختلط على المراقب، فيخطئ القراءة، ويخطئ التفسير. أما أين ستتجه النهاية في الواقع لا فهي تبقى مفتوحة، كما هو حال رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم.

الأربعاء، 10 أغسطس 2011

الوعي المغدور به

أحيانا يصبح الوعي مغدورا به، يتم تزويره وتزييفه، فيتشكل وعي جديد يقوم على مفاهيم خاطئة. والمؤسف أنه يتم فرض هذه المفاهيم وتسويقها باعتبارها تمثل الحق والحقيقة.
الوعي المغدور به، أفضى بنا إلى أن أصبح ثلة من أبنائنا، يتجهون صوب الغلو والتطرف بزعم أن هذا هو جوهر الدين الحقيقي. لقد تحول هؤلاء الأبناء إلى أدوات للقتل والتفجير باعتبار أن ريح الجنة لا تأتي إلا من هذا الباب. وهو وعي تم تسريبه في أذهانهم في غيبة للوعي الحقيقي الذي عرفه كبار السن من الآباء والأجداد فصاغهم الدين في سماحة وحب ورحابة وقبول للآخر.
الوعي المغدور به، أعطانا صورا مزيفة عن روح المواطنة الحقيقية، باعتبارها انحيازا للقريب وقريب الصديق، حتى تحولت منشآت ومؤسسات إلى قطاعات تتحكم فيها محسوبيات القرابة والنسب.
الوعي المغدور به، جعل البعض يطلق على الرجل الأمين أوصافا غير لائقة، فيما صار اللص من الشطار.
الوعي المغدور به، جعل أمثالا على غرار: إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، تصوغ علاقات بعض البشر ببعضهم، فأصبحت الذئبوية عنوانا يتم من خلالها ممارسة الغش والكذب والتدليس باعتبار أنها أسلحة مشروعة في مسرح الحياة الذي صار أشبه بالغابة.
هذه نماذج بسيطة من الوعي المغدور به. وهذه النماذج سوغت للخطأ أن يصبح عرفا عند البعض. ثم بعد ذلك يأتي من يسأل محتارا: أين الخلل؟!!

الاثنين، 8 أغسطس 2011

غضبة العيال



في مصر، كان البعض يعبر عن تضجره من الشباب ومن حركتهم، وكان يردد بنوع من الانتقاص: دول عيال.
في تونس، قهرت شرطية متغطرسة، رجلا كان يحاول فقط أن يوفر لقمة عيش لأسرته من خلال عربته البسيطة، هذا الرجل هو محمد بو عزيزي.
في أكثر من بلد، كان هناك دوما نوع من التعامل الفوقي المتغطرس تجاه الإنسان.
عندما دارت عجلة الغضب في تونس، إثر حادثة محمد بو عزيزي، لم يستطع كثيرون قراءة الصورة بشكل دقيق. في ذات الوقت، كان الوضع في مصر يغلي، لكن قارئ الصورة كان مصرا على أن يقول: دول عيال.
كان الليبي والسوري واليمني يرددون، وهم يرون نتائج عجلة الغضب في كل من تونس ومصر يردد: نحن لسنا مصر ولا تونس. هذه العبارة التي يبدو أنها صارت لازمة للخطابات المصاحبة للدول الثلاث تعكس نوعا من الاستخفاف الذي تتلخص محصلته في عبارة: دول عيال.
في كتاب يوميات عيل مصري للكاتب المصري أحمد محمد علي، هناك خيط واحد يظهر يتمثل في صوت الإنسان البسيط، صاحب الأحلام السهلة، الذي لا يجد وسيلة ولا طريقا يؤدي إلى تحقيقها.
هذا العيل المصري وجد في ميدان التحرير مكانا لتفريغ آماله التي كان سقفها واضحا، لكنه سرعان ما بدأ يرتفع، خاصة مع استشراء لغة: دول عيال. وتبدو لهجة الكتاب بسيطة للغاية وواضحة تختصرها عبارة وردت في ثنايا الكتاب تشير إلى أن "مصر زي القمر بس محتاجة ننفض عنها التراب".
هذه اللغة السهلة البسيطة تختصر أحلام وآمال كثير من الشعوب العربية التي تحركت. القاسم المشترك بين هذه الشعوب، أنها بقيت تنتظر لسنوات طويلة وعود الحصول على المن والسلوى.
 لم تحصد طوال تلك السنوات سوى مزيد من الفقر واستشراء الفساد وتزايد حالات التهميش وانتشار القمع، وهو الأمر الذي أدى إلى التغيير. طالب الناس في هذه الدول بالإصلاح، فتم التشكيك بهم واتهامهم بأنهم يحملون أجندات.
كانت أجندتهم رغيف خبز كريم وحداً أدنى من تحقيق العدالة الاجتماعية، لكن قادة هذه الشعوب أصرت على عبارة واحدة: دول عيال.

الجمعة، 5 أغسطس 2011

جنية غازي القصيبي


جلست جنية غازي القصيبي إلى جواري أياما عدة. كنت خلالها أتشاغل عنها بقراءة كتب أخرى. لكنني عدت إليها من جديد. محملا بإرث من الحكايات والقصص عن تلك العوالم التي يغلفها الغموض والخوف وهواجس الأطفال المسجونين في غرفهم خوفا من مخالفة تعليمات الوالد والوالدة حتى لا يقعوا في المحذور ويصبحوا فرائس سهلة لا تعلم إن هي واجهت كائنا جنيا أين ينتهي بها الأمر؟!!
عندما بدأت في قراءة الرواية، وجدتني أستعيد تلك المخاوف والمسميات، وأكاد أضع يدي على قلبي من التهيب.
"الجنية" هي إحدى آخر إصدارات الأديب الوزير الدكتور غازي القصيبي. ويحلو له أن يسمها بالحكاية، رغبة منه ربما في التخلص من جدلية التصنيف الروائي، والوقوع في الخلاف النقدي بهذا الشأن. بدت هذه الرواية ـ أو الحكاية سيان ـ وكأنها تستحث في النفس كل تلك المخاوف.


ما من شك أن "جنية" غازي القصيبي، عائشة قنديشة، قد حملت الكثير من الرسائل الإنسية والجنية.
لكن القصيبي، كعادته دوما، استطاع أن يحمل حكايته، جملة من الرسائل التي يستطيع كل قارئ وقارئة أن يسبر أغوار النص على طريقته، ووفقا لما يضمره داخل نفسه. هنا نحن نخوض في هامش من هوامش النقد الثقافي الذي أسس له لدينا الدكتور عبد الله الغذامي، الذي يرى أن النص يتباين بين أكثر من رؤية: الأولى ترتبط بالمؤلف وما يرغب أن يقوله، وليس شرطا أن يعيه القارئ ولا أن يتمكن المؤلف من إيصاله، وهنا تبدو الإشكالية التي تنقلنا إلى مستوى ثان يتعلق بالقارئ الذي يقرأ وفقا لمعطياته المعرفية، وليس شرطا أن يكون النص مترجما أمينا لهذه المعطيات، ثم هناك المستوى الثالث الذي يتعلق بالنص وهو هنا الشيء الثابت الذي لا يستطيع لا المؤلف ولا القارئ أن يحيطا به!
الطريف هنا، أن جنية غازي القصيبي المغربية المدعوة عائشة قنديشة، حظيت بمحام بارع، استطاع من خلال شخصية فاطمة الزهراء، وفيما بعد عائشة التي جاءت في أعقاب رحيل فاطمة الزهراء الذي أجهض الزواج المنتظر بين الفتاة المغربية والشاب السعودي الدارس في أمريكا، لكن هذا الإجهاض كان مؤقتا فالقنديشة قررت أن تتقمص شخصية فاطمة الزهراء كنوع من التطوع وفاء لوعد قطعته لفاطمة، لتفاجأ عند استقبالها للشاب في المطار أن الوله تسلل إلى روحها هي الأخرى.
في إسهابه، يلمس الكاتب نوعا من الاختلاف بين المرأة المغربية وكل نساء الدنيا. وهذا ما يشرحه له أيضا ابن أخت عائشة قنديشة الذي كان رجل المهمات الصعبة عندما يحتاج الأمر إلى تدخله. وهو إلى جانب هذه المهمة باحث مهتم بالشؤون الإنسية، يكشف من خلاله المؤلف رؤية وتشريح الجن للشخصية الإنسانية!
إن اللافت هنا، أن نص غازي القصيبي، يسير بطريقة أو بأخرى باتجاه تقدير أصيل وغير تقليدي للمرأة، ولا شك أن هذا التقدير يتجلى شعرا ونثرا لدى القصيبي في كتاباته الأخرى، حتى وهو يصوغ رثاءه العذب في الليدي ديانا التي نشرها إثر وفاتها على حلقات في مجلة سيدتي، ثم أعاد نشرها فيما بعد في كتاب مستقل.
غير أن "الجنية" لا تنقل لنا في أفقها الأوسع مجرد نظرة للمرأة، بقدر ما تسبر أغوار البحث باتجاه غير المرئي من الحيوات الأخرى. وغير المرئي أو المسكوت عنه فيما يتعلق بالقيم الإنسانية بمجملها، والرغبات الدفينة باتجاه السلطة والمال والحب أيضا. ويمنحنا القصيبي الكثير من الوقت للتأمل، من خلال الاتكاء على سلسلة من الأساطير سواء التراثية والمعاصرة، ومن بينها أسطورة عائشة قنديشة في المغرب وأسطورة أم الشعر والليف وسواها في السعودية والخليج. إناث الجان، كن المدخل الذي ولج منه المؤلف إلى محاكمة عالم الإنس بداية، والتفتيش في هذه العوالم عن الحقيقي وغير الحقيقي من الأفكار والقيم. هو لا يقدم لنا إجابة حتمية في نهاية الأمر، لكنه يحرضنا على مزيد من التفكير، وربما استجلاب جانب من ما أسماه الغرب الليالي العربية، عندما نقل إلى لغاته ترجمة ألف ليلة وليلة بكل ما فيها من حكايات يختلط فيها الإنس والجان والحيوانات الخيالية مثل العنقاء بكثير من الأجواء الرومانسية، وبطولات سندباد.
الشيء الذي يلفت الانتباه هنا، وهو ما يخص موضوعنا هنا، أن عائشة قنديشة التي أخذت أجمل ما عند نساء الأرض من عطاء، فقدمته لزوجها الإنسي. غير أن الأمر بدا غير مقنع للزوج الإنسي، فهو في إبهاره جعله يكتشف أنه مختلف عن الآخرين المحيطين به، إذ أن زوجته لم تكن تتشاجر معه، وكانت تنفذ ما يتمناه بمجرد أن يخطر على باله.
هنا انتهت مرحلة من المراحل، لتبدأ مرحلة أخرى يغوص من خلالها الرجل ـ بعد إنفصاله عن عائشة قنديشة ـ تجربتي زواج من سيدتين أولاهما زميلته الأمريكية في الجامعة، والثانية قريبته التي أوصى والده أن يتزوجها. كانت تجربة زواجه من قريبته مليئة بالمرارة، إذ لم تتأقلم قريبته مع واقع حياتها إلى جوار زوجها الطالب في أمريكا. ولم تتوفر علاقة طبيعية بينه وبين زوجته الأمريكية بسبب اختلاف الرؤى والثقافة التي جعلت الزواج يتأرجح وينتهي دون أي مشكلات.
تفاصيل كثيرة، تفضي إلى تأكيد أن كل العوالم، تمارس التجربة حتى تصل إلى الأمثل. ولعل الأمثل هو الشيء الذي أوحى به إلينا الكاتب عقب زواجه من المغربية غزلان، وهي قريبة فاطمة الزهراء، بل ربما هي عائشة قنديشة مرة أخرى، بعد أن انفصلا للمرة الثانية في أعقاب تسللها إلى جسده واستقرارها فيه إمعانا في العشق الذي كاد أن يودي في حياته لولا أن أنقذه شيخ يقيم بالقرب من مراكش.
أضفت أجواء المغرب، الكثير من التشويق للحكاية، وأعادت الحوارات والمعلومات التي تتعلق بالسحر والشعوذة وعلوم ما وراء الطبيعة. لكنها حملت حتما صورة ساحرة عن مغربيات لا يتعاطين السحر، فالمرأة المغربية إذا عشقت ـ وفقا لحكاية الجنية ـ لا تماثلها أي امرأة أخرى.
هنا ننتقل إلى المخيال الشعبي الذي ساد لفترة عن ذلك السحر، الذي جعل أشخاصا عديدين في الخليج مع سيادة ثقافة السفر، يرتهنون لهذه العذوبة، ويعودون وهم يتأبطون في أذرعتهم زوجات مغربيات. ولعل الشيء الطريف، أن الزواج من الأجنبيات، لا يخضع لنسبة السعودة التي يطبقها الدكتور غازي القصيبي بمنتهى الحزم والصرامة في وزارة العمل، بل هي تخضع لقرار وزارة الداخلية، وأحيانا يصدف أن يبادر الرجال إلى هذه المغامرة حتى قبل الحصول إلى إذن، الأمر الذي يعرضهم لعقوبات يتحملونها. أتراه بفعل السحر الحلال أم لأمر آخر؟!!
نص الجنية، باعتمادة تقنية الإحالة للمراجع في بعض الأحيان، يجعلك تدلف مع الكاتب في مغامرة البحث والتفتيش عن الحقيقي وغير الحقيقي في الأمر. مع عدم إغفال مسألة التسلية والتشويق، وهو الأمر الذي يؤكد المؤلف أنه دافعه للكتابة.
وبينما تعاني نساء كثيرات في الخليج والعالم العربي من العنوسة، نجد أن فكرة البحث عن ملاذ من شواطئ أبعد، تتحول في بعض الأحيان إلى أمر واقع. رغم كل الإغراءات التي تضعها دول الخليج لمصلحة المواطنات، سواء من خلال تضييق هذا الأمر نوعا ما، أو من خلال منح حوافز مادية ـ كما هو الحال في الإمارات ـ للشباب الذين يرغبون في الزواج من مواطنات.
يأتي هذا وسط سلسلة من الإحصاءات التي تؤكد أن الخليجيات بدأن يأخذن خطوات أوسع في عوالم عمليات التجميل، وفي وقت ذاته أكدت الإحصائيات أيضا أنهن الأكثر اهتماما بالعطور والمجوهرات.
لا تنسو أنني أكتب هنا، وأن أستحضر رؤية الدكتور عبد الله الغذامي في مسألة النقد الثقافي، وبالتالي من المؤكد أن المؤلف لم يقل هذا، وإنما أنا قولبت الفكرة بهذا الشكل، وبالتأكيد أنتم ستفهمون ما كتبته بشكل مغاير أيضا!

نشرت في مجلة أهلا وسهلا ، عدد يوليو 2007