الخميس، 20 ديسمبر 2012

تناقضاتنا اليومية



نحن أسرى تناقضاتنا. لا أستثني أحدا. نحن نقول كثيرا، ولكننا قد نأتي بأفعال مناقضة. نحن جميلون في خطاباتنا ضد كل شيء سلبي: العنصرية، المحسوبية، الظلم، حقوق الناس، حرية التعبير، احترام الرأي المخالف، الطائفية، التنطع والغلو، الوقوف ضد العنف الأسري، الدعوة إلى الانضباط المروري... إلخ.
هناك قائمة طويلة من الخطابات المثالية، التي يرددها المسؤول، ويقولها الإنسان العادي. خطابات نستدعي من خلالها كل بلاغتنا الخطابية والكتابية. تويتر - باعتباره من علامات ساعة الحقيقة - أحد أبرز المعاقل التي يمكنك من خلالها أن تقتنص التناقضات، إذ بين كل تغريدة وأخرى، تجد هذا التناقض، ففي الوقت الذي تطول فيه غضباتنا أفعالا سلبية - كالعنصرية مثلا - لكن نفحة من الحماس الزائد، تجعل التغريدة التالية تنضح عنصرية. وفي السياق ذاته، فإن التعاطي مع الحوار باعتباره مظهرا متحضرا، ينكسر فجأة مع أول خلاف في الرؤى، ليغدو الأمر شخصيا، ويتم - فيما بعد - نسف كل الأشياء المثالية.
بالمناسبة أغرب تصريح قرأته الأسبوع الماضي كان للدكتور عبد الله العبيد، نقله عنه جمال خاشقجي في تغريدة له عبر ''تويتر'' قال فيها: ''إن مركز الحوار الوطني درَّب نحو مليون سعودي على آداب الحوار''. ومنذ قرأت هذا الكلام وأنا أتساءل: متى؟ وأين؟ وكيف؟
أظن أننا قد نجد قريبا سؤالا تعجيزيا يتم طرحه على المتقدمين للتوظيف لذكر أسماء المليون سعودي الذين تم تدريبهم على الحوار عبر مركز الحوار الوطني.

الاثنين، 8 أكتوبر 2012

القصيمي والمنيف ... الحكاية والفكرة والنتيجة

عبد الرحمن منيف
عبد الله القصيمي

قفز نادي القصيم الأدبي إلى الواجهة، إثر تراجعه عن تقديم ورقتين نقديتين حول كل من عبد الرحمن منيف وعبد الله القصيمي. ما حدث في أعقاب التراجع، أكبر مما لو مضى النادي في هذه الخطوة. وكان يمكن للنقاش والجدل بشأن هاتين الشخصيتين سواء مع أو ضد أن يتم تحت قبة النادي بدلا من أن تتحول إلى قصة مثيرة يتم التداول في شأنها من خلال الصالونات الأدبية والحوارات بين المثقفين في مواقع التواصل الإجتماعي والتدوينات.
إن الإيقاع الثقافي الحالي أصبح مختلفا، ولم يعد بالإمكان التعاطي مع مسألة الخلاف والإختلاف من خلال التوقف عن مناقشة هذه القضية أو تلك، بل إن إيجاد المناخ المناسب للحوار الثقافي والفكري جدواه أكبر.
لقد تابعنا في الأيام الماضية آراء تؤيد موقف نادي القصيم وأخرى تعترض عليه. كان المشهد بشقيه المؤيد والمعارض يعكس الصورة المنشودة لحوار أراد له البعض أن لا يتم تحت قبة نادي القصيم. تحقق هذا الأمر. لكن الحوار لم يتوقف. الشيء الوحيد الذي غاب ضبط إيقاع الحوار، حتى لا يتم الخوض في قضايا وتفاصيل لا علاقة لها بالمسألة الأصلية وهي أساسا قضية أدبية وثقافية وفكرية، وأي تمددات أخرى، هي إفراز للحدية اللافتة التي أوجدها السور الذي وضعه النادي. لم يكن أحد ليعتب على أحد لو لم يبادر النادي بالإعلان عن خطوته بشأن الورقتين، لكن تراجعه كان مفصلا فتح حوارا لن ينتهي، وسوف يتكرر. الطريف أن المنيف والقصيمي تم الحديث عنهما عبر أكثر من ناد أدبي ويجري تناولهما من خلال المنابر الصحفية كثيرا. الذي حققه المنع، أنه حفز من لم يعرفهما من الجيل الجديدعلى التعرف عليهما.


الخميس، 20 سبتمبر 2012

أتعلمين يا حبيبتي أن السفر له ألوان؟



الذي يحدث يا حبيبتي أنني قررت أن أسرد لك تفاصيلي، حكاياتي، ... أشعر أنك هذه المرة ستتعرفين عليها من جديد، وكأنك تعرفينها لأول مرة.
 أتعلمين؟ هذه صيغة سؤال مكرورة، لكنها أصبحت ساحرة، بمجرد أن أدخلها بدر شاكر السياب ضمن مفردات قصيدة "أنشودة المطر". لكن هذا ليس موضوعنا، كنت فقط أريد أن اسألك: أتعلمين أن الأوقات التي صارت بعيدة الآن، لم نعد نملكها. هي الماضي. ذلك الشيء الذي لم نكن نتصالح مع جزء منه، ولم نكن نحب جزء آخر، وكنا بالكاد نطيق جزء آخر... هذا الشيء الرمادي، أصبحنا الآن ننظر له بحنين. عذاباتنا الصغيرة، القديمة، أصبح إيقاعها عذبا في هذه الساعة.
 وكنت دوما أسأل نفسي، وأنا أرتحل زمنا ومكانا، عن الفرص السانحة التي كانت تغوينا ولكننا نزهد بها. كنا حينها أكثر صبوة وشبابا. الآن تتراخى الأشياء. رؤية واسعة، لكنها هادئة. ردة الفعل بطيئة. ما لن يأتي الآن لم يعد مهما أن يأتي غدا، أو لا يأتي. الأغنيات العذبة تنأى بنا صوب العادي وغير العادي.
من جوف الغيم، يتقاطر صوت محمد عبده، يردد نغمته البيضاء: "إشرب قبل لا يحوس الطين صافيها". هذه صاغها خالد الفيصل في لحظة تكثفت فيها حقيقة الأشياء الجميلة.
 لقد انكسر صلف الصبا، وأصبحنا أنت وأنا في منتصف الطريق، نحتفي باعتياد الأشياء.
أصحو صباحا. أمارس نفس العادات بالترتيب: أضع قدمي على الأرض. أتطلع عبر النافذة. نفس الإطار، حيث تقف الشجرة في مكانها. لا شيء يتغير، سوى الطقس والمزاج. طقس الكلام. طقس الكتابة. طقس الحلم.
 وحده الحزن الشفاف، يتراءى، مع الزيارات النادرة للمطر. حينها تهطل أنشودة المطر من فمي، وتهفو نفسي للسفر.
وكأنني أستحضر أرواح الغرباء، الذين دفعتهم الحاجة للركض بعيدا. كانو شجعانا إذ خرجو من شرنقة الواقع.
تركو أجزاء كثيرة منهم في كل مكان مرو به. كل جزء يتركونه، هو محور حكاية أخرى، قد أحكيها لك يوما.
إن السفر الملون، هو الذي يجعل الأفكار تهطل: تبدو ذات طيف خاص، مرة يطغى فيها البياض، ومرة أخرى تمتزج فيه كل الألوان، حتى تكاد تستنشق رائحة ثمار البرتقال وسط الألوان. وفي بعض المرات يطغى لون الغربة، يتحول الارتحال إلى جسر حياة لآخرين ينتظرون خلف الضفاف.  في كل هذه الأشياء، يتمدد دوما صوت ابن زريق البغدادي:
لا تعذليه فإن العذل يولعه    قد قلت حقا لو كان يسمعه
في ثنايا قصيدة إبن زريق، هناك لون آخر من ألوان السفر. فيه أيضا حكاية زوج وزوجة افترقا لأسباب معيشية على أمل لقاء. كان على الزوجة حينها أن تبحث عن بعض السلوى بالقصيدة الوصية. بدا وكأن الشاعر يعتذر منها. لم يحتمل جسمه أوجاع الغربة، وأنهكه المرض، فكانت رسالته الأخيرة. تلك القصيدة، عبرت قرون عدة، كانت ولا تزال تلهم كل من يريد أن يعيد صياغة جزء من سيرة السفر والغربة وألوانهما. الجميل في القصيدة، أنها تتضوع بالحب حتى آخر لحظة.

* تم نشرها ـ مع بعض التصرف ـ في : سبتمبر من مجلة "أهلا وسهلا" 

السبت، 14 يوليو 2012

المقهى الأخير


هذه التدوينة نشرتها مسبقا في عدد يونيو 2012 في مجلة: أهلا وسهلا



ـ صباح التعب أو العتب.
قالها بصوت خافت.
تابع وهو يتأمل في الأفق: مجرد سلام، ... حتى لا تجف أوراق الذكريات المنسية.
في مكان بعيد. كان هناك من يصغي بصمت. يجعل الكلام يتكثف، مثل رغوة الكابتشيونو في ذات المقهى الذي تعود أن يجلس فيه يوميا.
وفي مكان قريب، كان هناك من يصغي أيضا. بعد أن لفته المشهد اليومي.
دوما هناك مقهى، وهناك إنسان يجلس على مقعده وحيدا، يسرح في الأفق، يبدو كأنه يتأمل وجوه الناس، وهو خارج إطار المكان والزمان.
كان يتوكأ على حزمة من الذكريات، ويتخذ مقعده كل صباح، في مقهى عتيق في شارع التحلية في الرياض.
لم يكن أحد في المقهى يسأله ماذا يريد؟ كانت طلباته تأتيه فورا. هي تتغير بتغير الأوقات فقط. الصباح قهوة تركية مرة. يرشفها وهو يستحضر حزن السنوات. يقرأ الصحيفة الخضراء. يتأمل السيارات القليلة التي تعبر من الشارع في هذا الوقت من الصباح.
يفتح هذه اللحظة رواية كائن لا تحتمل خفته، يستعيد من خلالها صورا أخرى، لأمكنة لا تزال تستوطن ذاكرته. يعرف أن هذا المزج بين الـ "هنا" والـ "هناك" أحيانا لا معنى له. لكنه اعتاد على إعادة تشكيل الأماكن كما يحب.
يمزج تحلية الرياض، بشانزلزيه باريس. يغمض عينيه قليلا تأخذه الدهشة صوب عين ذياب في كازابلانكا وسوليدير في بيروت وحتى تيرانا في ألبانيا.
كان دوما يردد: السفر فاكهة الحياة.
لكنه فجأة قرر أن يتوقف عن هذا الركض!
بعد كل رحلة، كان يعود إلى ذات المقهى. هناك كان يشهد أعدادا من أولئك يشبهونه في كل شيء. يختارون طاولة على الرصيف. عادة هم لا يغيرون أماكنهم. كل طاولة تحمل بشكل غير مرئي إسم شاغلها الصباحي. أحيانا يمر وقت طويل، حتى يستوعب أن هذه الطاولة أو تلك أصبحت شاغرة، حتى يأتي شخص جديد ويشغلها بشكل يومي.
كان الغياب يملؤه حزنا. الذين يأتون هنا، يحاولون أن يتمردوا على حالة التقاعد التي فاجأتهم. عادة يلبسون أجمل ملابسهم، يخرجون من المنزل في الوقت المعتاد، يعيشون حالة ضياع سرمدية لبضعة أيام، ثم يكتشفون هذا المكان، فتتسلل لهم الطمأنينة.
كان الخوف من الموت هو العامل المشترك بينهم. كلهم له قصته الخاصة. البعض تبدو همومه مغروسة على تضاريس وجهه. تحكي عنه دون أن يحكي.
 البعض الآخر يبدو أقرب للبئر العميق. تضاريس وجهه لغتها صعبة. لا يمكنك أن تخمن، هل هو سعيد أم حزين؟ هذا الوجه يخفي خلف ملامحه حكايات صعبة.
هو يتأمل، في لحظات، كل هذه التفاصيل، ويواصل الحديث:
ـ ما زلت في الرياض، ولكنني أتمنى أن أجد طريقة للسفر إليك.
في الجوار، كان هناك متطفل يرسم على وجهه ابتسامة. كان يرصد هذه التفاصيل منذ أيام. قرر أن يتابعها باعتبارها مشهد حياة. بينما كان الآخر يواصل سرد تفاصيله اليومية، نومه وصحوه، طعامه، إحساسه بالوحشة بعد أن صار وحيدا، أشواقه التي لا تنضب، ووعوده المؤجلة بالسفر على أقرب رحلة.

الاثنين، 4 يونيو 2012

المفكر العربي ... كرتون بطاطس







المفكر العربي في منظور فضائياتنا مجرد: كرتون بطاطس

الفكرة تبدو حقيقية.

هناك من يتعامل مع التفكير باعتباره: سلعة.

هناك من يظن أن المفكر: كرتون بطاطس.

على ضوء ذلك: هو عندما يتعامل معه، يعتبر أنه يشتريه بما فيه. وبالتالي لا فرق بينه وبين: كرتون البطاطس.

هذا الأمر، أفضى إلى التعامل مع أي نسق، خارج سياق ما يريده المشتري، تجعل السلعة من نظره تبدو فاسدة، وغير قابلة للإستهلاك.

هذه الفكرة مرعبة جدا، لكنها ـ عربيا ـ موجودة !

أشاهد في الفضائيات العربي، رجالا كبارا، أحببناهم من خلال كتاباتهم. لكنهم يبدون في الشاشة وكأنهم مهرجون أو كراتين بطاطس.

المذيعة التي كانت ذات يوم صارخة الجمال، تتخاطب مع هذا المفكر بمنطق الست التي تعرف أنها جميلة، وأن هذا الجمال كان جواز عبورها. وهي تعتبر أنها صاحبة فضل إذ أنها جمعت هذه الثلة من كراتين البطاطس كي تثرثر مع المشاهدين من خلالهم.

الأمر نفسه ينطبق على المذيع، الذي يتباهى بفذلكاته، ويعتقد أنه مصدر الحقيقة ومنبعها. وأن على كرتون البطاطس الماثل أمامه أن يستجيب للأسئلة الإيحائية التي يطرحها، وأن يكون بحجم الأمل فيه وأن يجيب على قدر ما يريد المذيع وما تريده القناة الفضائية.

فضائيات البطاطس، أفرزت مفكري بطاطس، وخبراء بطاطس، وخبيرات بطاطس.

الظاهرة تطورت، مع سيادة (التوك شو) الذي لا يتوقف، بل إنه أصبح ظاهرة سرطانية تتمدد من التعليق على الأخبار خلال النشرة، إلى التعليق ما بعد الأخبار.

في المقابل صار عندنا: متظاهروا بطاطس أيضا.

من قال إن البطاطس ليس حالة فكرية، عليه أن يتأمل خطابنا الفضائي. وكما قال مظفر النواب ذات حين بعد أن شتم الزعماء العرب في مجلس حافظ الأسد: والله لا أستثني أحدا. وكان وقتها مطلوب منها أن يقول: إلا حافظ الأسد. لكنه لم يقلها.

وقتها، تم التعامل معه باعتباره بطاطس فاسد!

وبعض المفكرين، قرر من ذاته أن يصبح بطاطس، وبالتالي تراه يظهر بشكل يومي، كامل الدسم، يتجشأ من الشبع والتخمة، ويلقي على أسماعنا كلاما وفقا لما يطلبه الممولون، الذين يستمرون في تسمينه، وفي فتح مركز خاص به للدراسات، أو يمنحونه ـ وذلك أضعف الإيمان ـ رتبة خبير أو مستشار أو كاتب في مطبوعة تجعل المال الذي يتجه إلى حسابه قابل للتبرير فهو يكتب في مطبوعة خليجية، تدفع له 100 دولار مقابل كل كلمة يتشدق بها.

الثلاثاء، 8 مايو 2012

مدونة خالد السهيل: حقيبة...وطائرة... وبقايا صور

مدونة خالد السهيل: حقيبة...وطائرة... وبقايا صور: تم نشر المقالة في مجلة أهلا وسهلا عدد مايو 2012 دوما، تحملك الطائرة بعيدا. بينما أنت تحمل في رأسك، كونا أكبر: أسرتك، مكتبك، ... ذكريا...

حقيبة...وطائرة... وبقايا صور

تم نشر المقالة في مجلة أهلا وسهلا عدد مايو 2012

دوما، تحملك الطائرة بعيدا. بينما أنت تحمل في رأسك، كونا أكبر: أسرتك، مكتبك، ... ذكرياتك، تفاصيلك، أحاسيسك. كل هذه الأشياء تأتي معك. لا تحتاج أن تضعها في حقيبة ملابسك. هي تتوارى في العمق.

مع اللحظة الأولى التي تدلف فيها إلى صالة السفر: تتداعى الصور، حاملة في ثناياها المشهد الداخلي، الذي يلتصق بك. تبتسم، تتطلع إلى الأمام. تترقب أسراب الطائرات التي تأتي وتمضي. في جوف كل طائرة حكايات متحركة. سحنات متعددة. مشاعر متناقضة. فرحة وصول، غصة مغادرة، بهجة ذهاب، ولوعة إياب.

جوهر السفر، في ذاكرة الأوائل، يقوم على الإحتياج والسعي طلبا للرزق، السياحة للسياحة كانت فعلا نادرا.

لكننا اليوم، لا نكاد نقتنص إجازة قصيرة أو طويلة، حتى نتدافع متجهين صوب الداخل والخارج، في سعي لكسر قاعدة المعتاد اليومي.

يضع الناس حقائبهم، ويضعون في ثناياها أحلامهم بأيام سعيدة. أكتب هذه الأسطر من المطار، بعد أن أنهيت إجراءت السفر المعتادة. جلست أتأمل في وجوه الناس. المطارات والطائرات تلهمنا أشياء كثيرة. كثيرون استوقفتهم صورة المشهد. الحقيقة أن فعل السفر بأكمله، كان أمرا يحفز على الإبداع، والتأمل، والبوح الصادق. في لحظة ما، غربة ما، نقطة ما، يبدأ الإشراق وتتدفق الكلمات. أحيانا تأتي في وقت مبكر، وأحيانا تأتي متأخرة تماما، كما هو فعل ابن زريق البغدادي الذي خرج طلبا للمجد والرزق، فودع زوجه ومضى، ولكن السفر طال حتى حانت المنية، فتلفت من حوله، واستجلب من بغداد صور زوجته وراح يخاطبها:

لا تعذليه فإن العذل يولعه *** قد قلت حقا لو كان يسمعه 

هي قصة يومية مكرورة. تتواكب معها قصص أخرى. تجد أنها ترتحل من زمن إلى زمن، تتوالد، تسلمك الأولى للثانية، فتصبح مثلا سائرا. ألم يقولو إن السفر يجعلك تعيد اكتشاف الأصدقاء. رغم يسر السفر، ما زالت تلك اللحظة التي أفرزت هذه التجربة تتكرر دوما. أنت تعيد اكتشاف أصدقاءك خلال السفر. بل أجزم أنك تعيد اكتشاف ذاتك في السفر.

في المطار وفي الطائرة، ... حكايات وقلوب تتعلق بالسفر، تراه طوق نجاة، أو جسرا لهروب مؤقت أو دائم. وعلى المقعد المجاور لك، أنت ستكتشف كونا إنسانا آخر، له أحلام ورؤى وأفكار تختلف عنك. وعندما يحالفك الحظ وتتجاذب أطراف الحديث مع شخص دمث من مجاوريك، ستكتشف كم أن الحياة رغم اتساعها، إلا أنها تغدو أصغر، من خلال القيم الإنسانية المشتركة.

حذاري: لا تنسوا قلوبكم، وأنتم تغادرون الطائرة. إذ نادرا ما يتكرر اللقاء بذات المسافر الغريب أكثر من مرة.

طيب الله أوقاتكم.

الأحد، 8 أبريل 2012

حاتم الطائي الإنسان



كثيرون يبتسرون سيرة حاتم الطائي في الكرم الذي كان يميزه. ذلك الكرم الذي لقي ثناء عاطرا من الرسول الكريم عليه السلام. ولقي بعض التطاول من البعض باعتبار مثل هذه الممارسة تنطوي على بعض السفه بزعمهم ! هذا ليس الموضوع. إن التأمل في سيرة حاتم الطائي يجد أن كرمه لم يكن قاصرا على هذا المفهوم، بل كان يتعامل من خلال كرائم الأخلاق. تلك المزية التي بدأت تتلاشى عند البعض. حاتم الطائي الإنسان كريم النفس والشمائل هو القائل:

وما من شيمتي شتم ابن عمي 
وما أنا مخلف من يرتجيني

بينما يسود اليوم، قيم عصرانية، تجعل شتم ابن العم، والأب، ناهيك عن الأبعد، مسألة تستحق الولوغ فيها، إذا ما كانت المصالح تستدعي ذلك. وحاتم الحصيف، يقول:

وكلمة حاسد من غير جرم 
سمعت وقلت مرّي فانقذيني

هنا، ترى نبلا لم يعد موجودا. فكلام الحاسد يترى ويؤثر في من يستسلم لناقله ويجعله ينتقم لذاته، حتى وإن كان المنقول ليس صحيحا.
أما كرمه المشهور من خلال بذله ما يملك، فقد فتح عليه غضب زوجه وهو يشير إلى ذلك في أكثر من موضع منها قوله:

وقائلة أهلكت بالجـــود مالنا 
ونفسك حتى ضر نفسك جودها
فقلت دعيني إنما تلك عادتي 
لـكل كـريم عــــــادة يستعــيدها


رؤية حاتم، هي رؤية إنسانية، بمقاييس تفوق كثيرا ما قد يتشدق به البعض منا حاليا. هاهو هنا يقر، أنه كي لا يكون لئيما يرضى أن يبيت جائعا، في مقابل أن يأكل ضيفه:

أما والذي لا يعــلــم الغيــب غـــيره
ويحيي العظــام البيــض وهي رمــيم
لقد كنت أطوي البطن والزاد يشتهى
مــــخافــة يومــا أن يقـــال لئيــم


لهذا السبب، بقي حاتم بقيمه وجوده هامة شامخة، يقرأها الناس، لكنهم قلما يدركون أن القيمة ليست سرفا ماليا مع لؤم، بل هو بذل في المال، وعطاء من كرم الأخلاق، يجعل النفس تتسامى لتعانق الذرى.
هامش أضعه هنا، بعد نقاش دار بيني وبين عدد من الأصدقاء، كان محوره "الإنسانية في العصر الجاهلي". واخترت نموذج حاتم الطائي للتأكيد أن بعض ما في ممارساتنا المعاصرة، هو أكثر جورا من بعض صور الشهامة العربية العريقة. والشهامة بزعمي هي المحرك الأساس الذي يجعل فعلنا يغدو أكثر إنسانية.
في 605 م ـ أي قبل الإسلام ـ مات حاتم الطائي على دين النصرانية، وذاعت قيمه بين الناس، لكنهم أضاعوها، كما أضاعوا الكثير من جوهر الإنسان.




* سبق أن نشرت هذه التدوينة في 27/4/2008 في مدونتي على موقع ميراد. 

الأربعاء، 22 فبراير 2012

حالتنا في تويتر







قال لي: ما يحدث لديكم يستلفت النظر. أنتم تسرفون في الحديث، وتستغرقكم تفاصيل أكثر من سواكم.

كانت الجلسة تلتئم على عدد من المثقفين الضيوف على مهرجان الجنادرية، وعدد آخر من الشباب والكهول الذين يتواصلون عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

قال الرجل: ألحظ أن كثيرا ممن يغردون على تويتر من السعودية: مصريون أكثر من المصريين، سوريون أكثر من السوريين، ليبيون أكثر من الليبيين، كويتيون أكثر من الكويتيين.

تابع الرجل تشخيصه لما سماه "الحالة السعودية" في تويتر، مشيرا إلى أنك إن حاولت تتبع الأمور التي يتناقش فيها الناس في بلدان مجاورة، فإنك لا تجد لديهم الاستغراق في الشأن الآخر بالشكل الطاغي على التدوينات السعودية.

تابع الرجل حديثه عن الهاشتاقات الخاصة بدول أخرى، قائلا إنك تجد أن الذين يتواصلون من خلالها، يضجون بالغيرة والحرقة إن وجدوا أي مساس أو تطاول عليهم من شخص غريب. قال الرجل: رأيت البعض لديكم، يتصدون للدفاع عمن يتطاولون على مجتمعاتكم، وهذه الحالة واضحة بقدر لافت. صمت الرجل، وانقطع الكلام.

لم تكن التعليقات كثيرة، قلت له: هي فرصة أن تكتب عن هذا. اعتذر بلطف. قال: أنا أهمس بهذه الكلمات بيننا، لكنني لا أجرؤ على التصريح بذلك.

قلت: الموضوع يستحق التأمل والنقاش، ولهذا سأتحدث عنه إن سمحت لي. قال: شريطة ألا تشير إلى اسمي.

هل نحن كذلك فعلا؟ ولماذا أصبح هامش السلبي يستأثر باهتمامات البعض منا، بينما الإيجابي يمر مرور الكرام؟

الحديث في هذه القضية ينبغي ألا يهدأ. هو حديث يخاطب ضمائر نجوم مواقع التواصل الاجتماعي شبابا وشيبا. مطلوب فقط أن يتأملوا ويحاولوا الموازنة بين الإيجابي والسلبي.

الثلاثاء، 31 يناير 2012

في المسألة الأرمنية: تركيا قتلت واغتصبت...لم لا تعترف؟! ... نحن أيضا نريد اعتذارا عن إبادة عرب الأندلس


 




في المسألة الأرمنية: تركيا قتلت واغتصبت...لم لا تعترف؟!
هو نوع من المكابرة التي أصبح القانون يعاقب عليها، منذ أن انكسرت ألمانيا في الحرب العالمية، وبات اضطهاد اليهود في ألمانيا عنوانا احتل واجهة الأحداث، وصار إنكار المذابح التي تعرض لها اليهود مدعاة للعقاب. وسواء اتفق البعض مع هذا الأمر أو لم يتفق، لكن هذه القيمة صارت عنوانا عالميا من عناوين القيم الإنسانية.


وعليه صار من حق كل شعب تعرض لاضطهاد ومذابح أن يفتش عن حقوقه، سواء كان هذا الشعب في الجزائر ضد مائة عام من العبودية لفرنسا، أو ضد تركيا التي قتلت الأرمن وهجرتهم، أو ضد إسبانيا الذين أبادوا المسلمين ومارسو عمليات قسرية لتغيير دينهم ومصادرة أموالهم.

إنها قصة العبودية الإنسانية الصارخة. قصة لم تكن تركيا العثمانية في منأى عنها. لقد مارست تركيا العثمانية هذا الإستعباد ضد العرب. وكانت تأخذ خيرة شباب العرب لاستخدامهم كعمال سخرة وحوائط صد في حروبها التوسعية. هي حروب كانت تتوسل بالإسلام. لكن الباب العالي كان يعتبر العرب جرذان لا قيمة لهم. بهذا المنطق تمت صياغة علاقة الدولة العثمانية بالعرب، وبهذا التصور كان بعض العرب مناطق مستباحة للجيش العثماني "المسلم" كي يمارسوا مع أحرار العرب ونسائهم كل الموبقات والإغتصاب من أجل إذلالهم.


الذين لا يريدون تذكر هذا التاريخ أناس يمارسون نوعا من الاستغباء على الناس. وإن كانت الحساسيات الإجتماعية تمنع التوسع في هذا الأمر، لكن هذا لا يعني أن يضحك علينا البعض ويمارس نوعا من التقديس تجاه التجربة العثمانية ومن بعدها التجربة التركية الحالية في حقبتها العثمانية الجديدة.

من الممكن أن ننظر لتركيا باعتبارها شريك، لكن على تركيا أن تتعامل بمنطق الشريك. أما اللغة الاستعلائية التي تمارسها تركيا مع العرب ـ حتى أولئك الذين لا نتفق معهم ـ فهي تحاول أن تستجلب قيم "عرب خيانات" لتجعلها طريقة للتواصل والتحاور.



 بالضبط كما كان يفعل الباب العالي من خلال عبيده في مصر العثمانية، حيث كان يبعث بقواته من أجل تأديب العرب إذا ما حاولوا أن يرفعوا رؤوسهم قليلا.

قضية الأرمن في تركيا لا تقبل الإنكار، ومظالم تركيا العثمانية للعرب أيضا لا تقبل الإنكار ولا النسيان. وأي شخص يشكك في تجاوزات العثمانيين إما جاهل لا يعرف، أو شخص غير موضوعي يتوسل بالمصالح الآنية دون أن يدري أن المصالح يمكن أن تتم مع عدم تجاهل التاريخ. أما الشخص الثالث الذي لا علاج له، فهو العثماني من العرب العاربة أوالمستعربة الذي يؤمن يقينا أن الأتراك والعجم من طينة أعلى من طينة العرب، ومثل هؤلاء لا يختلفون عن النازيين الذين كانو يروجون أنهم أنقى وأطهر البشر. 

نافذة الأرمن، هي النافذة التي يمكن من خلالها أن نرفع أصواتنا ضد الإبادة التي مارستها محاكم التفتيش في إسبانيا ضد عرب الأندلس بعد أن استعادوا الأندلس بسقوط غرناطة، ورحيل (أبو عبد الله الصغير) منها، وتركه للبقية ليواجهوا مصيرهم المحتوم.

ونافذة الأرمن، هي البوابة التي يمكن من خلالها للعرب في المغرب والجزائر أن يحاكموا الحقبة الإستعمارية الفرنسية أيضا.

باختصار شديد قد يتنازل العرب ـ لاعتبارات مختلفة ـ عن حقهم في الإقتصاص ضد مظالم الأتراك المسكوت عنها، لكن ليس مطلوب الدفاع عن مظالم تركيا للعرقيات الأخرى سواء كانو أرمن أو أكراد، بحجة أن تركيا سوف تقف معنا في وجه إيران، فإيران يقف العالم كله ضد سياستها وصلفها وطموحاتها التوسعية. وهذه الطموحات كانت محور الصراع التركي الإيراني أو يمعني أكثر دقة الصراع العثماني/ الصفوي.