الخميس، 20 سبتمبر 2012

أتعلمين يا حبيبتي أن السفر له ألوان؟



الذي يحدث يا حبيبتي أنني قررت أن أسرد لك تفاصيلي، حكاياتي، ... أشعر أنك هذه المرة ستتعرفين عليها من جديد، وكأنك تعرفينها لأول مرة.
 أتعلمين؟ هذه صيغة سؤال مكرورة، لكنها أصبحت ساحرة، بمجرد أن أدخلها بدر شاكر السياب ضمن مفردات قصيدة "أنشودة المطر". لكن هذا ليس موضوعنا، كنت فقط أريد أن اسألك: أتعلمين أن الأوقات التي صارت بعيدة الآن، لم نعد نملكها. هي الماضي. ذلك الشيء الذي لم نكن نتصالح مع جزء منه، ولم نكن نحب جزء آخر، وكنا بالكاد نطيق جزء آخر... هذا الشيء الرمادي، أصبحنا الآن ننظر له بحنين. عذاباتنا الصغيرة، القديمة، أصبح إيقاعها عذبا في هذه الساعة.
 وكنت دوما أسأل نفسي، وأنا أرتحل زمنا ومكانا، عن الفرص السانحة التي كانت تغوينا ولكننا نزهد بها. كنا حينها أكثر صبوة وشبابا. الآن تتراخى الأشياء. رؤية واسعة، لكنها هادئة. ردة الفعل بطيئة. ما لن يأتي الآن لم يعد مهما أن يأتي غدا، أو لا يأتي. الأغنيات العذبة تنأى بنا صوب العادي وغير العادي.
من جوف الغيم، يتقاطر صوت محمد عبده، يردد نغمته البيضاء: "إشرب قبل لا يحوس الطين صافيها". هذه صاغها خالد الفيصل في لحظة تكثفت فيها حقيقة الأشياء الجميلة.
 لقد انكسر صلف الصبا، وأصبحنا أنت وأنا في منتصف الطريق، نحتفي باعتياد الأشياء.
أصحو صباحا. أمارس نفس العادات بالترتيب: أضع قدمي على الأرض. أتطلع عبر النافذة. نفس الإطار، حيث تقف الشجرة في مكانها. لا شيء يتغير، سوى الطقس والمزاج. طقس الكلام. طقس الكتابة. طقس الحلم.
 وحده الحزن الشفاف، يتراءى، مع الزيارات النادرة للمطر. حينها تهطل أنشودة المطر من فمي، وتهفو نفسي للسفر.
وكأنني أستحضر أرواح الغرباء، الذين دفعتهم الحاجة للركض بعيدا. كانو شجعانا إذ خرجو من شرنقة الواقع.
تركو أجزاء كثيرة منهم في كل مكان مرو به. كل جزء يتركونه، هو محور حكاية أخرى، قد أحكيها لك يوما.
إن السفر الملون، هو الذي يجعل الأفكار تهطل: تبدو ذات طيف خاص، مرة يطغى فيها البياض، ومرة أخرى تمتزج فيه كل الألوان، حتى تكاد تستنشق رائحة ثمار البرتقال وسط الألوان. وفي بعض المرات يطغى لون الغربة، يتحول الارتحال إلى جسر حياة لآخرين ينتظرون خلف الضفاف.  في كل هذه الأشياء، يتمدد دوما صوت ابن زريق البغدادي:
لا تعذليه فإن العذل يولعه    قد قلت حقا لو كان يسمعه
في ثنايا قصيدة إبن زريق، هناك لون آخر من ألوان السفر. فيه أيضا حكاية زوج وزوجة افترقا لأسباب معيشية على أمل لقاء. كان على الزوجة حينها أن تبحث عن بعض السلوى بالقصيدة الوصية. بدا وكأن الشاعر يعتذر منها. لم يحتمل جسمه أوجاع الغربة، وأنهكه المرض، فكانت رسالته الأخيرة. تلك القصيدة، عبرت قرون عدة، كانت ولا تزال تلهم كل من يريد أن يعيد صياغة جزء من سيرة السفر والغربة وألوانهما. الجميل في القصيدة، أنها تتضوع بالحب حتى آخر لحظة.

* تم نشرها ـ مع بعض التصرف ـ في : سبتمبر من مجلة "أهلا وسهلا"