الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

رؤية حول صناعة الأفكار في العمل الصحفي


يطلب مني أصدقاء ومحبين أن أقدم لهم بعض أوراق العمل التي كنت أشارك فيها في ملتقيات علمية، حول العمل الصحفي. وعادة أقوم بتزويدهم بنسخ منها عبر البريد، ولكنني وجدتها فرصة سانحة لعرض بعضها من خلال المدونة. 
 باكورة هذا الأمر ، هذه الورقة التي قدمتها منذ أعوام (صارت بعيدة) وهي تحت عنوان : رؤية حول صناعة الأفكار الصحفية.علما أنني لم أقم بإجراء أي تعديل على محتوى الورقة، رغم الحاجة إلى ذلك.  وهو مشروع تمنيت أن أكمل الطريق فيه، ولكن لم يتسن المزاج لذلك.
وإن كنت أعيد طرح الأفكار من خلال بعض الدورات التدريبية التي سبق تقديمها عبر أكثر من كلية ومعهد للتدريب الإعلامي والصحفي.  أو حتى بالنسبة لزملائي الجدد الذين يحالفني الحظ بالعمل معهم.
هناك أوراق علمية أخرى، شاركت فيها في ملتقيات أخرى، سوف أطرحها لاحقا. إن راق لكم ذلك. 



 تستكشف الورقة إشكالية تتعلق بالعمل الصحفي وهي الفكرة الصحفية. والفكرة الصحفية أبرز الأعمدة التي ترتكز عليها الصحافة الحية والمميزة. وتفتقد المكتبة الإعلامية العربية إلى الدراسات التي تتناول هذا المحور بشكل واضح ودقيق. يمكن القول أن غياب الفكرة المعد لها بشكل جيد، يؤدي إلى سيادة الإنشائية. والإنشائية إحدى المثالب التي تؤدي إلى إضعاف الجريدة وإفقادها الكثير من المزايا التي يمكن أن تتمتع بها. ويتلو تحديد المشكلة، التحضير لمعالجتها.
وتطالب الورقة بإعادة صياغة الأدوار، بإعطاء مزيد من الاهتمام والعناية بما يمكن تسميته صانع الأفكار. خاصة أن الورقة أثبتت من خلال عينة منتقاة تتكون من 10 أشخاص يساهمون في صناعة الفكرة في أكثر من صحيفة، أن صناعة الفكرة تعد مهمة إلى جانب مهام أخرى، الأمر الذي يجعل هذه المهمة تغدو ثانوية عند البعض نتيجة انهماكهم في التفاصيل الأخرى. 
وتشبّه الورقة العاملين في ظل مثل هذه الظروف بالجياد المرهقة، التي ربما تكمل السباق، ولكنها لا تحقق فوزا فيه. وتحدد المقصود بالفكرة الصحفية. مع الإلحاح على أهمية إعطائها مزيد من الاهتمام، خاصة في ظل التحديات التي تواجه الصحافة الورقية تحديدا. 
ويرصد الباحث سلسلة من المظاهر الإيجابية التي تؤكد تفاعل الصحف وشعورها بأهمية الأمر. لكن تظل المسألة، وفقا لما وصلت إليه الورقة، محكومة بالكثير من الاجتهادات، مع عدم الثبات. وهذا يعني أنه رغم الإحساس بالمشكلة، إلا أن المعالجات جاءت متباينة، والسبب كما تفترض الورقة يتمثل في غياب صانع الفكرة، وفي الفهم الواضح لماهية صناعة الفكرة المميزة. 
وتحاول الورقة أن تحدد صفات صانع الفكرة الجيدة، سواء من ناحية الإلمام بأهداف العمل الصحفي وغاياته، والمهارات المهنية والقيادية. 
ويطرح الباحث سلسلة توصيات باتجاه تكريس مهمة صانع الأفكار، باعتبارها تساعد في تنظيم ما يتعلق بالفكرة الصحفية والارتقاء بها، الأمر الذي يؤدي للارتقاء بالعمل الصحفي بشكل عام.



تمهيد


سوف تناقش هذه الورقة إحدى الإشكاليات التي تتعلق بالعمل الصحفي. وهي الفكرة الصحفية، وكيفية تطويرها، والعوائق التي تحد من بلورتها بشكل واضح في عدد من الصحف، كما تحاول أن تطرح رؤية واضحة، تتعلق بأهمية إيجاد نوع من العمل الخاص بالتفكير والتخطيط وصناعة الأفكار، بشكل مستقل عن التفاصيل اليومية. التي تجعل الذهن ينشغل في بعض الأحيان عن المتابعات والملاحقات. 
الأمر الذي يؤدي إلى الاستسلام للروتين الوقتي في العمل، ولما يفرضه واقع الحال، من عدم وجود ضابط حقيقي يتعلق بالمحافظة على جودة المطبوعة بشكل عام. أو بتعبير أكثر دقة افتقاد فن الاتصال الذي تساعد على التطوير الإداري وتضيف له (الشمراني،1421). 
وسوف أحاول من خلال هذه الورقة، أن أضع نتاجا لمراقبة من داخل العمل الصحفي، قارئا وممارسا لما يزيد على خمسة 20 عاما، ودارسا في المجال نفسه.
وأحسب أنني اكتشفت أن الجانب النظري للمسألة، لم يكن بالمستوى الذي كنت أتصوره، وهو اكتشاف غير جديد مع الأسف، إذ لا تزال المكتبة الإعلامية تفتقد المراجع المهنية. 
ومعظم المراجع التي أتيح لي أن أعود إليها، كانت تتناول الفكرة من خلال استعراضها لأشكال العمل الصحفي، وفي الأغلب فهي لا تغطي ما أطمح أن أتناوله هنا، اللهم إلا من خلال كلام عام. (صالح، 1985). أو كلام يأخذ زوايا معينة مثل موضوع الجريمة وكيفية معالجتها الصحفية في مجتمع من المجتمعات(الشلال، 1996). أما صناعة الفكرة الصحفية، بكل ما تتضمنه الكلمة من معنى، فلم أر لها الأثر الذي كنت أتمناه مع الأسف. 
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن رئيس التحرير ونوابه وإدارة التحرير، يضطلعون بالجزء الأهم من صناعة الفكرة الصحفية. لكن حتى هؤلاء إذا لم يمارسوا أدوارهم بشكل كامل، فإنهم يفقدون من خلال ذلك عنصر الإعداد الجيد الذي يميز صحيفة عن أخرى. وليس معنى هذا إعفاء أو تجريد المحرر من روح المبادرة، فالصحافة الحديثة تفترض أن يكون المحرر حاضرا ومتميزا بأدواته. والفكرة التي تأتي من المحرر مباشرة، يكون النجاح حليفها، شريطة أن يشاركه من فريق دعم الأفكار في الجريدة.(الحمامصي، 1965م). 
واستحواذ الاستسلام للواقع، والخلوص إلى نتيجة: ليس بالإمكان أفضل مما كان، يجعلان الفريق كله ينهمك في مسألة ملاحقة الأفكار واصطيادها، وسط سلسلة من المهام والواجبات الاستراتيجية والتكتيكية. وهذا يمكن ربطه بمسائل عدة بينها سوء إدارة الوقت بالشكل الفاعل (أبو شيخة، 1991).



هيمنة الإنشائية


والناتج تفاوت واضح وبيّن، ينعكس حتما على المضمون، ويجعله خاضع بشكل كامل للظرف الآني. وهو ظرف يجعل الإنشائية تطغى. وهذا العيب رصده في واقعنا الصحفي مهني تدرج في العمل الصحفي ومر بكل الأدوار من محرر إلى سكرتير تحرير ومدير تحرير ليتوج كل ذلك من خلال رئاسة التحرير في أكثر من مطبوعة، وأعني بذلك داود الشريان، الذي وضع خلاصة رؤيته في سلسلة مقالات كان وما زال ينشرها في عدد من المطبوعات، بينها مجلة "اليمامة" وصحيفتا "البلاد"و "الحياة". 
وهذه الإنشائية يحاكمها الشريان في مقالاته وطروحاته العلمية من خلال أكثر من منبر، مثل ورقته التي طرحها في جمعية الثقافة والفنون في الدمام عن سيطرة الإنشائية واستحواذها على العمل الصحفي المحلي. (الشريان، 1995).
 وهي تتسرب بالضرورة من خلال الخبر والتقرير والتحقيق وبقية أشكال العمل الصحفي، فتأتيك المادة باهتة، لا تشبع نهم القارئ، ولا تعكس القدر المطلوب من المهنية. 
ومن اليسير أن نلمح ذلك من خلال صيغ وقوالب جاهزة، تتسرب في سطور هذا الخبر أو ذاك التقرير، فالاجتماع المنعقد "ناقش القضايا التي تهم الطرفين". لكن لا أحد يمكنه أن يفيدك عما يهم الطرفين حقا، ولا حتى ما يهم القارئ أن يفهمه حول خلفية لقاء هذين الطرفين. 
وأسهل ـ بل أخطر شيء ـ أن تصاب المطبوعة بالعجز عن المواكبة الحقيقية للأحداث، رغم ثرائها، ورغم أن المعلومات التي تغذيها ملقاة على قارعة الطريق لمن يريدها، مثلما هي بعيدة المنال لمن يختلق العوائق التي تجعله يستسلم لما هو متاح. باعتبار أن الصحفي الجيد"لا يسمح لنفسه أن يضع جملا من نسج خياله" (صابات، 1985). 
والمشكلة في الإنشائية لا تنبع من قلة العمل، إذ إن العمل الصحفي، حتى وإن كان شاقا ومهدرا للجهد والوقت، لكنه لا يعطي ثماره إلا لمن يملك رؤية واضحة لما يريد، وكيف يحقق ذلك. وهذه المثالب تعاني منها وسائل الإعلام العربية، حتى فيما يتعلق بأسلوب المقابلة الصحفية واستضافة الشخصيات المهمة. 
والعنصر الأساسي في هذا الأمر، يتمثل في وجود فكرة واضحة، يدعمها تخطيط واع، وأدوات جيدة تستطيع ترجمة الأفكار بشكل دقيق، أو على الأقل في صورة مقاربة.(فارسي، 1987) 
وفي كل الصحف، يكون رئيس التحرير مشغولا برسم الخطوط العامة، ودعم الجريدة بالكوادر المتميزة، فيما يتولى فريقه ترجمة ذلك إلى خطط تضمن تسيير العمل وتطويره.(ابن عباس، 2000). والوقود الحقيقي لكل ذلك هو الفكرة، إذ تمثل العمود الفقري الذي يتم على أساسه رسم زاوية التناول، والطريقة، والأدوات التي سيجري استعمالها في ذلك. سواء من خلال عمل واحد، أو سلسلة من الأعمال التي تبدأ بالخبر والتقرير والصورة الصحفية والحوار والمقالة، التي يفترض أن تتواكب مجتمعة، لا عن طريق مبادرات الكتاب فحسب، ولكن من خلال حفزهم ولفت انتباههم إلى الزوايا التي تغيب عن أذهانهم، بحكم عدم ملامستهم العمل اليومي وانغماسهم فيه. 
وهنا تبرز الحاجة لضابط الاتصال الذي يراقب الإيقاع ويثريه بكثير من اللمسات التي تعطيه بصمة المطبوعة وإحساسها بالأحدث.خاصة في ظل عدم وجود توصيف ثابت وفصل دقيق في مختلف صحفنا، يبين مهام نائب رئيس التحرير وإدارة التحرير وسكرتارية التحرير أيضا. بل وحتى رؤساء الأقسام. ومن المهم أن تكون الخطوط الفاصلة واضحة بين ما يقوم به نائب رئيس تحرير وآخر. ومثل ذلك بالنسبة للمناصب الأخرى. والإشكال الخطير أن تجد تداخلا مخلا في المهام والواجبات، تفرضها في بعض الأحيان ظروف موضوعية، أو غير موضوعية أيضا. إذ إن المسألة بيد قائد الفريق، الذي يمنح الصلاحيات، ويخول بعض صلاحياته لمن يتوسم أنهم يترجمون ما يريده، وليس شرطا أن يكون ما يريده خاضعا لمعيار مهني بحت. 
ويمكن القول إنه وسط حمى انشغال الفريق الإداري للصحيفة، بترجمة الخطوط التي يضعها رئيس التحرير، تبدأ مرحلة التنازلات التي تتوالى استجابة للواقع اليومي. ويتكرس هذا الأمرـ ما لم يتم تداركه ـ حتى يصبح واقعا معاشا، تدفع الصحيفة ثمنه، وينعكس على جودة ما تطرحه للقارئ. 
هنا يجد رئيس التحرير وفريقه، أنفسهم يغوصون في المشكلات الصغيرة، فتتحول الاستراتيجيات إلى مجرد خطط تكتيكية، تسعى لمواجهة الانحدار، ولكنها لا تتمكن من وقفه، وتتحول المسألة إلى ما يشبه السباق بين مجموعة من الجياد المرهقة، التي قد تواصل الركض، لكنها لا تحقق ما تتمناه. وهذا له علاقة بالدرجة الأولى بغياب التخطيط، باعتبار أن التخطيط أولى خطوات النجاح(شيرمان، 1421)


إعادة صياغة الأدوار

في ضوء هذه الإشكالية، يبدو هنا تساؤل مهم: هل يمكن أن تستمر الصحف في سلوك هذا الطريق؟ 
والاستفهام السابق يضعنا أمام سؤال أكثر أهمية: هل من سبيل للقضاء على العشوائية، التي تتسم بها عملية التعامل مع صناعة الفكرة في بعض الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية وحتى الشهرية والدورية؟ 
والأمر في هذه الحالة يتطلب إعادة صياغة الأدوار، بل وإعادة الاعتبار للفكرة وكيفية توجيهها، ورصد طريقة تنفيذها، ومراجعتها قبل وبعد النشر، ليس بغرض الرقابة المحضة، وإنما لضمان هامش واضح من الجودة والتميز. 
إن تمييع الفكرة، وتشتيتها بين أطراف عدة يجعلان الأمور تتباين، وتخرج عن سياقها الصحيح. وفي استقراء لواقع صناعة الفكرة الصحفية في عدة صحف، من خلال التخاطب مع عشرة من المعنيين بهذا الهم، يتضح أن صناعة الفكرة حاليا، وصياغتها، هما نتاج عمل فردي يطلب من الجميع. بينما يفترض أن يضاف إلى ما هو موجود، قسم مختص باصطياد الأفكار وبلورتها حتى تصبح صالحة لأن تكون عملا يليق بقارئ الصحيفة. وشملت العينة: رؤساء تحرير، نواب رئيس تحرير، مديري تحرير، ورؤساء أقسام. 
وكانت المحاور الأربعة المطلوب الإجابة عليها، هي: 
_ كيف تتم صياغة الفكرة في مطبوعتك؟ 
_ هل يشاركك أحد في صياغة الفكرة؟ 
_ ما أبرز المهام والواجبات التي تؤديها؟ 
_ ما العوائق التي يواجهها نجاح الفكرة الصحفية الجيدة؟ 
وبشكل عام، تأكد لدي الانطباع أن الفردية هي الطاغية، وأنها لا تمنح الصحيفة ـ مع الركض اليومي ـ ما تتمناه من تفرد. واكتشفت أن البعض يعتبر أن الانفراد بتأدية العمل يمنح المرء التألق، ونحن نعاني من هذه السلبية، في جسمنا الصحفي، بشكل ملموس، والمبرر الذي ساقه أحد المشاركين في الإجابة " من حق المرء أن يحتفظ بالحد الأدنى من أحقيته في النجاح، في وقت لا يتقاسم فيه البشر سوى النجاح، بينما يتبرأون فيه من الفشل".


الفكرة الصحفية

من الضروري هنا التدقيق في ماهية الفكرة، وهذا شأن أشبعه علماء اللغة بحثا، وتمحيصا فالفكر عند ابن منظور يعني "إعمال الخاطر في الشيء" (ابن منظور، 1969) وفي "مختار الصحاح" وتحت مادة ف ك ر : (التفكر) التأمل والاسم (الفِكْر) و(الفِكْرة) والمصدر (الفَكْر) بالفتح وبابه نصر. و(أفكر) في الشيء، و(فكّر) فيه بالتشديد و(تفكّر) فيه بمعنى. ورجل (فكّير) بوزن سكّيت كثير التفكر. (الرازي، 1979). ومنها الفكرة، وجمعها أفكار. 
والفكرة الصحفية هي ذلك الموضوع الذي يأتي نتاج متابعة وقراءة وتفحص واحتكاك بكافة شرائح المجتمع، وأوعية المعلومات، والقراء...الخ. وهو عمل عمدي القصد منه الخروج بفكرة جديدة. 
وفي الشأن ذاته، فإن صانع الأفكار الصحفية ـ كما ألمحت سابقا ـ هو ذلك الشخص الذي تتركز مهمته في اصطياد الأفكار الصحفية والدفع بها إلى التنفيذ. يمكن أن يكون هذا الدور لمجموعة من الأشخاص وليس لشخص واحد. لكن الشرط الأهم التفرغ لهذا العمل دون الانشغال عنه بمهام أخرى. وتبدو الحرفية في هذا الأمر من خلال الامتزاج بين الأفكار الآنية والأفكار بعيدة المدى، بحيث تتناغم هذه الخطوات عبر فعل يجعل المتابع يجزم أن وراء ما يلمحه من نجاح، فريق متكامل من العاملين، يقودهم رئيس تحرير ناجح وحصيف، يدرك ما يجب عليه تجاه النأي بمطبوعته من أي انحدار يمكن أن يقع. ليس من خلال الاستغراق في التفاصيل الدقيقة بل بتوفير الأذرعة اللازمة لضمان انسياب العمل اليومي بسلاسة، وبأسلوب يتوخى التوفيق ويراهن عليه. ويستخدم الحزم إن لزم ذلك. 
واتضح أن هناك شعورا مشتركا بالفراغ والإرباك الذين يتسبب فيهما عدم وجود من يتفرغ للتفكير، دون الولوج في المشكلات اليومية. وهنا ليس شرطا أن يكون الشخص قياديا، بحكم أنه سيرتبط بالأذرعة الإدارية بشكل أو بآخر، وإن كان الأفضل أن يكون صاحب صلاحية تتيح له مساحة جيدة في الحركة، بالتفاهم مع رئيس الفريق.(أدهم، 1984).


مسائل بدهية

لم يكن العمل الصحفي، في يوم من الأيام، مجرد فعل آلي خال من الفكر. 
ويفترض القيادي الممارس، أن الأشياء ذات معان ومدلولات، سواء فيما يتعلق باختيار هذا العنوان أو ذاك، أو بالشكل العام للمطبوعة. 
وعندما تقرر جهة إصدار مطبوعة أو تطويرها، فإنها تطرح على نفسها أسئلة تبدو صعبة بالنسبة لمن ينشدون النجاح. ومن أهم هذه الأسئلة: من نحن؟ ومن نريد أن نخاطب؟ 
وحين تنسى تلك الجهة طرح هذا السؤال، أو يغيب عن ذاكرتها في فترة من الفترات، فإنها بشكل أو بآخر تدخل مرحلة الاضمحلال والضمور. 
وموت الصحيفة أو ضمورها، أمر وارد في أي لحظة. ويؤثر في ذلك عدة أمور، يتشارك فيها الإدارة والتحرير. وأحيانا يكون المناخ العام دافعا نحو الضمور. 
وبشكل عام فإن التجارب التي نشهدها تمنحنا فرصة لرصد إجابات من أسئلة مهمة بينها: 
ـ كيف تسهم إدارة المؤسسة الصحفية في الدفع بالمطبوعة أماما، أو الإلقاء بها إلى الخلف؟ ونحن هنا نتحدث عن فعل عفوي غير مقصود، فليس ثمة من يرغب في مصادقة الفشل، ولا الإسهام في صناعته. 
إنما هناك من يستحوذ عليه مثلا التوفير المالي، لتفقد المطبوعة يوما بعد الآخر زمام المبادرة التي تتوارى مع غياب الحافز، وانتشار المخاوف من المستقبل بين العاملين. خاصة إذا ما وصل الأمر إلى التشكيك في خيارات إستراتيجية بالنسبة للمطبوعة، لكنها ربما لا تمثل من وجهة نظر الإدارة سوى عبئ مالي إضافي. 
ـ كيف يخلق رئيس التحرير بالكادر الذي معه، الشخصية التي تميز مطبوعته الصحفية عن أخرى، بحيث تدفع هذه الشخصية المميزة المطبوعة لتكون ضمن الخيارات القريبة للقارئ؟ 
ـ كيف تتحول القطاعات الإدارية والتحريرية إلى كوكبة تسعى للنجاح، وتسوّق له من خلال فعل واع للعمل الصحفي، الذي يستهدف تحقيق النجاح، مع وجود فهم مشترك وتبادل متناغم للأدوار؟ 
ـ كيف يتم قياس الجودة من عدمها في أقسام الجريدة، وكيف يتم التأكد من استمرار ضخ المزيد من الأفكار التي لا تستحوذ عليها فكرة الشكل فقط، بل تغوص في المضمون أيضا؟ 
هذه مجرد نماذج، ... والإجابة عن الأسئلة المطروحة، تفضي إلى إيجاد وعاء يمكن من خلاله أن تتجاوب المطبوعة مع متطلبات ورغبات القارئ.


مرحلة تتسم بالتحديات

ولعل المراقب لهموم المهنة الصحفية، يجد أن البون شاسعا بين عدة مدارس صحفية، في طريقة ممارسة العمل، وإدارته، وترجمته إلى واقع. وهذه المدارس هي نتاج ممارسة وخبرة بالدرجة الأولى، تمتزج بشيء من الحس الإداري، والاستحضار الدائم لحاجات القارئ وتطورها. 
ولم تعد مسألة الإجابة عن الأسئلة الستة التي يضعها منظرو الإعلام هي الملاذ الوحيد، الذي يمكن من خلاله ضمان إيجاد قصة صحفية حقيقية. أو لنقل إن التعامل معها، أصبح متسما بأكثر من متغير.(أبو زيد، 1993). 
وأبرز هذه المتغيرات، أن صحافة العالم كله أصبحت بين يدينا. متجاوزة من خلال ذلك عوامل عدة من بينها الوقت والحدود...الخ. وهو واقع جاء انعكاسا لما تتيحه الإنترنت من فضاءات أمام الصحافة المكتوبة، 
ناهيك عن الصحافة الإلكترونية التي تتخذ من الإنترنت بيئة وحيدة لها، وهنا لا نملك إلا أن نشير إلى تجربة جريدة "إيلاف" الإلكترونية التي يجيب من خلالها ناشرها ورئيس تحريرها عن سؤال أساسه: من نحن؟ وماذا نريد؟ (العمير،2002). 
وهو من خلال هذه الإجابة يكشف الهاجس الذي كان ولا يزال يستحوذ على المتعاملين مع الصحافة الورقية، بشأن آفاق المستقبل. ويعبر عن آماله "في ملء فراغ ما في ساحة الإنترنت" (العمير، مرجع سابق). 
ووضعت "إيلاف" من خلال نسق خاص بها صيغة تحاول من خلالها أن تكون جريدة العرب على الإنترنت. ونحن هنا لسنا معنيين بمسألة حجبها في أكثر من بلد عربي، باعتبار أن الورقة هنا تستشهد بها كمثال فقط. وثمة أمثلة شتى لتجارب ناجحة، بينها تجربة جريدتي "الشرق الأوسط" و"الحياة" (أبو زيد، مرجع سابق). ناهيك عن تجارب المؤسسات الصحفية المحلية، ولعل أنضجها في رأيي تجربتا "الرياض" و"الجزيرة". 
وحتى بعض المنتديات أضحت تمثل تحديا قويا أمام الصحف، باعتبار أنها تتضمن شكلا من العمل الصحفي سواء من خلال المقالة، أو بعض أشكال الإخبار والإعلام عن حادثة معينة. وأصبحت هذه المنتديات والمواقع تتفنن في إبداعها، الذي ربما نتفق أو نختلف معه، بل وصل الأمر في موقع "الإقلاع" ـ على سبيل المثال ـ إلى تقديم الأخبار السياسية باللهجة المحكية. مع تطعيمها بجانب من الطرح الساخر. (إقلاع، 2003). 
إذن أصبح عنصر الإبداع من العناصر المؤثرة، وأصبح حجم الإحساس به أكبر من السابق. 
وزاد من حدة هذا الأمر، مزاحمة الصحافة المرئية، التي استفادت بشكل أو بآخر من الصحافة المكتوبة، سواء من خلال العاملين فيها ـ إذ إن نسبة كبيرة منهم كانوا صحفيين ـ أو حتى من خلال زيادة الجرعات الخاصة بالأشكال الصحفية المختلفة بدءاً من الخبر ومرورا بالتحليل والتقرير والتحقيق والحوار. ولو تابعنا تجربة قناة "العربية" على سبيل المثال، لاكتشفنا أنها استقطبت جزء كبيرا من كوادرها بالاعتماد على الجسم الصحفي. والأمر نفسه طبقته قناة "الجزيرة" منذ انطلاقتها إذ إن نسبة غير قليلة من المذيعين والمراسلين والمحللين، خرجوا من عباءة الصحافة.(السهيل، 2003) 
ويمكن القول إن التلفزيون تخلص، بعد فترة طويلة، من كثير من تقاليده، واستورد تقاليد الصحافة الورقية، مع تطعيمها بالمزايا الأخرى التي تتعلق بالعمل المرئي. 
هذه المؤثرات وسواها، وضعت المهنيين أمام تحد حقيقي. وزاد السؤال المؤرق: 
ـ ماذا يمكننا أن نقدم للقارئ؟ 
ـ كيف نثير شهيته؟ 
ـ كيف يمكن أن نحقق التميز الذي يجعل القارئ يقتنع أن لدى هذه المطبوعة أو تلك شيئا مميزا يحفزه على الشراء ومن ثم القراءة؟ 
أسئلة عديدة، محورها محاولة الوصول إلى حالة الرضا. 
و يمكن فهم مؤشرات هذه الأسئلة ومغازيها، من خلال النظر إلى أرقام التوزيع، التي تكشف بالدرجة الأولى مفاجآت لافتة. بينها أن القارئ، لم يعد ذلك الشخص الذي كان يمنح ولاءه المطلق لهذه المطبوعة أو تلك، إذ إن عصر الولاءات المطلقة بدأ يتلاشى. 
ما زلنا إذن نرصد سلسلة تحديات، تواجهها الصحف، ولا بد من أن تتخذ حيالها موقفا ضروريا، يساعد على الارتقاء بالجانب المهني. 
وهذا الأمر تحقق بشكل أو بآخر من خلال أكثر من محور، بعضها شكلي، يتمثل في الاهتمام بالنواحي الإنتاجية والطباعية بالاستفادة من أرقى التقنيات في هذا المجال، بما في ذلك إدخال عنصر الألوان في معظم الصحف المحلية، ومن لم يلحق بالركب يفترض أن يحقق ذلك في غضون أشهر قليلة. 
أيضا يلاحظ أن الأداء أصبح نوعيا، خاصة في عدد من الصحف، بحيث يمكن من خلال هذا الأداء النوعي كسب ولاء القارئ.


مظاهر التجاوب مع التحديات

ومن أجل تحقيق هذا الأمر، شهدت صحف محلية سلسلة تغيرات في السنوات الأخيرة تمثلت فيما يلي: 
أولا: إعادة النظر في تبويب الصفحة الأولى، وأصبحت تضع ضمن أولوياتها الأخبار التي تعني القارئ، وتمس مصلحته الشخصية بالدرجة الأولى. إضافة إلى تغطية الجانب الرسمي المحلي. 
ونكاد نلمح هذه المظاهر من خلال أكثر من صحيفة، فالصفحة الأولى في "الجزيرة" أو "الرياض" أو "الوطن" أو "عكاظ" ـ على سبيل المثال ـ لم تعد كما كانت منذ زمن غير بعيد. 
إذ طغى الشأن المحلي، وأصبح يزاحم شؤون أخرى كانت تمثل ثوابت في الصفحة الأولى للصحيفة اليومية. وهنا يجبرنا الإنصاف على القول، إن "الاقتصادية" من الصحف التي أسهمت في تأسيس هذا المفهوم الخاص باهتمامات الصفحة الأولى، واستمرت عليه. وقبلها كانت هناك محاولات غير ثابتة في صحف عدة أبرزها "الرياض" و"عكاظ". ويمكن القول حاليا إن معظم الصحف ـ كل من زاويته ـ تتنافس في هذا المجال. 
ثانيا: إعطاء القارئ عنصرا إضافيا وعناية أكبر من خلال إعادة الاعتبار أيضا إلى رسائل القراء. باعتبارها المادة التي تحمل نبضه. وأفردت صحف كثيرة ـ بعضها كانت لا تلقي بالا للبريد ـ صفحات متعددة لهذا الغرض. 
ثالثا: إعادة النظر في حاجات المجتمع الحقيقية، ومحاولة تناول هذه الحاجات، من خلال تحقيقات تتلمس جوانب النقص في الخدمات...وتواجه المسؤولين عن ذلك. وهذه الصيغة رغم أنها كانت موجودة في السابق، إلا أنها تطورت في الآونة الأخيرة بحيث غدت سمة تتميز بها الصحف الناجحة. 
رابعا: الخروج من نمط الحوار الصحفي التقليدي، أو حتى الحوار الترفيهي، إلى المواجهة ومحاولة تسمية الأشياء بأسمائها. وبدأنا نقرأ حوارات، لا يمارس من خلالها الضيف مصدر الحقيقة، والصحفي مجرد وسيلة نقل لهذه الحقيقة، إذ يحاور ويناور من أجل أن ينتزع معلومة أو اعترافا لافتا. ورغم أن الأمر تكتنفه صعوبات جمة، بسبب عدم استجابة معظم المصادر لهذه المسألة، إلا أن حوارات من هذا النوع أسهمت في تشجيع آخرين على خوض التجربة. والأكيد أن الأمر يعتمد بالدرجة الأولى على مصداقية الصحفي، ومقدرته على إقناع ضيفه أنه لا يريد الإيقاع به، بقدر ما يتيح له أن يبدو أمام الناس بشكل مختلف عن الصيغة التي تعود الناس من خلالها على حوارات نمطية تخلو من سؤال يحفز المسؤول على الإجابة ويشجعه على التبسط مع الصحفي وإعطائه المزيد من المعلومات. 
خامسا: الاستفاضة في تناول بعض القضايا الأمنية، بشكل أسهم في مسابقة ـ أو على الأقل مواكبة الإعلام الخارجي ـ خاصة فيما يتعلق بالقضايا التي تتعلق ببعض التفجيرات أو الحوادث الأخرى. وأصبحنا نلمح تميزا وتنافسا بين الصحف، في الوصول إلى المصادر التي تملك المعلومة، ومن ثم لم يعد مستغربا أن تجد صحيفة تتمكن ـ بدأبها ـ من الوصول إلى ما لم تصل إليه صحيفة أخرى، سواء من خلال تصريح تنفرد به لسمو وزير الداخلية ـ على سبيل المثال ـ أو أي مسؤول آخر. 
سادسا: إعطاء المزيد من المساحات لعنصر الصورة، وجعلها تتسيد مساحة أكثر مما كانت عليه في السابق. وهذا عنصر مهم ساعد على إظهار بعض العورات والعيوب، بل وحتى الإيجابيات، ولكن من خلال حس صحفي ورؤية مميزة تجعل الصورة مادة أولى، تغني أحيانا عن الكثير من الكلمات. وهنا من الضروري أن نشير إلى نماذج محددة تتمثل في صحف "الوطن" و"عكاظ" و"الاقتصادية". 
لكن الإشكالية، أن حدس المراقب لا يخيب، إذ سرعان ما يكتشف أن هذا الانطباع، لا يمكن التعامل معه باعتباره مسألة حتمية. فقد تراقب صحيفة ما فترة أسبوع أو أسبوعين أو حتى شهرا كاملا لتكتشف ثباتا، لكنك تفاجأ أن هذا الثبات يتأرجح. 
بل إن مقاييس التعامل والتفاعل مع حدث ما، ليست متوازية مع حدث آخر مواز له. 
والمسألة ليست ناتجة عن فكر أو رؤية واضحة للعمل. إنما هي بالمجمل نتاج اجتهاد، أو سوء تخطيط، أو حتى غياب استراتيجية واضحة. بل يمكن القول إنها نتاج غياب رقابة واضحة لمسألة الجودة وسواها من أمور. والذي يحدث أن هناك جملة إشكالات تؤدي إلى هذه المسألة. 
وأجمعت العينة المختارة على أن أبرز العوائق التي تؤثر في جودة العمل الصحفي، وتؤدي إلى الإخفاق أحيانا في تجربة والنجاح في تجربة أخرى تشمل ما يلي: 
1. قصور الكادر التحريري، وتفاوت أدائه، خاصة فيما يتعلق بالمراسلين، في المناطق النائية، وهو أمر ينتج عنه ضعف شديد في المادة المتوقعة. وبالتالي تفاوت في التفاعل من مكان إلى آخر. 
2.عدم تفرغ جزء كبير من الصحفيين العاملين في الميدان، وهذا الأمر يجعل الرهان على التفاعل مع حدث يبقى محصورا بخيارات ربما لا تحقق الغرض المنشود. 
3. غياب المصور المتمرس الذي يستطيع أن يكون محور ارتكاز تعتمد عليه الجريدة من أجل رصد الكثير من التفاصيل. وغالبا ما يصبح حجم الخيبة أكبر، خاصة في حالة وقوع الحدث في مكان ناء، ويبعد عن المركز الرئيسي للصحيفة. 
4. استحضار الجانب المادي، وهي مسألة تحد أحيانا من طموحات تطعيم التحرير في المناطق النائية بعناصر أفضل. وأمام ذلك يغدو الخيار أمام هذه الصحف محدودا بالاكتفاء بهذا المراسل، أو ذاك، وهو أمر تحكمه مسائل محاسبية بالدرجة الأولى. وأتاح لي رئيس تحرير في مطبوعة، ونائب رئيس في مطبوعة ثانية مراجعة قوائم أسماء عدد من المراسلين الصحفيين في الصحيفتين، واتضح أن رواتب هؤلاء تكاد لا تفي بالحد الأدني. فالمتوسط هو 1500 ريال، وبعض هؤلاء الذين تتصدر أسماؤهم الصحف للتعبير عن مناطقهم يتم التعامل معهم بنظام القطعة الصحفية. وغالبا ما يكونون من موظفي العلاقات العامة في إحدى الجهات الحكومية في تلك المناطق. وهذا المراسل يمارس دور مدير المكتب والمراسل وأحيانا السكرتير والمحاسب أيضا في المسائل الإعلانية. 
5.عدم العناية بالمعلومة، والاكتفاء بالمتوافر منها، وهنا تبرز لنا حقيقة أدركها بولين آثرتون، إذ لا قيمة للمعلومة "طالما لم يستفد منها أحد". وعلى ذلك يمكن تقرير "أن المعلومات ما لم يستفد منها الصحفي آنيا فإنها تصبح بلا قيمة فعلا" (ابن عباس، مرجع سابق). وفي رأيي أن الضابط في هذا الأمر أن يكون هناك إصرار على المعلومة، التي تقصي الحالة الإنشائية في صحافتنا المحلية.


غياب صانع الأفكار

من خلال توصيفنا للفكرة, والصورة المثالية لصناعتها، يمكن أن ندرك كيف يلقي هذا الأمر بعبئه على رئيس التحرير، إذ يجد نفسه بين خيارين أحلاهما أمر من الآخر: 
ـ الخيار الأول: الغوص في التفاصيل والجزئيات الكثيرة للعمل، ومن ثم الانشغال عما هو داخل في صميم عمله الحقيقي، ليتحول إلى ممارسة دور إدارة التحرير. 
ـ الخيار الثاني: الاستسلام للأمر الواقع، والبحث عن مشجب يتم تعليق الأخطاء عليه، مع ما يحمله ذلك من عواقب أقلها أن تسجل المطبوعة تراجعا متواصلا في متابعة المجريات اليومية. 
وغالبا ما يلجأ التحرير إلى رمي كل أخطائه ومصائبه على الإدارة، علما أن الإدارة تتحمل جزءا، لكن ذلك لا يمنح البراءة للتحرير، إذ إن تجارب مزج إدارة المؤسسة ورئاسة التحرير وإن كانت نجحت في مطبوعات، لكنها لم تحقق أدنى نجاح في مطبوعات أخرى، وهذا كاف للتدليل على تقاسم الطرفين جريرة الفشل مثلما يتقاسمان فاكهة النجاح. 
وينبغي ألا نسرف في التفاؤل، حتى في حالة وجود صانع الأفكار المتميز، الذي يعمل ضمن الفريق، ومهمته الرئيسية تتمثل في بلورة الأفكار، التي تصب لديه. إذ حتى الأفكار الجيدة لا يمكنها أن تحقق نجاحا، ما لم يوجد المحرر الذي يتمكن من تنفيذها بشكل مناسب. 
وهاتان الإشكاليتان إحداهما تتضاد مع الأخرى. وفي حالة عدم وجود من يفكر ويخطط بشكل سليم، وغياب المحرر القادر على أن يفكر أيضا، تخضع الجريدة ـ عدا حالات نادرة ـ للمبادرات الذاتية من المراسلين والمحررين الميدانيين. 
وهنا يمكنك أيضا أن ترصد ما يلي: 
أ‌. موضوعات موسمية مكررة يتسابق إليها مراسلون من صحف مختلفة على غرار بدء الموسم الدراسي، أو ظهور بعض الفواكه،...الخ. بل حتى الموضوعات الجوهرية، تتحول بين يدي صحفي بليد، وصحيفة تعاني من الضمور، إلى فكرة ميتة، سرعان ما يلفظها القارئ، لأنه سبق أن قرأها عشرات المرات في اكثر من مطبوعة. وخذ "السعودة" مثالا على ذلك، إذ ليس ثمة مطبوعة محلية لا تكتب عن السعودة، لكن أي موضوع عالق في الذهن من هذه الموضوعات؟ إنه الموضوع الذي يأتيك من زاوية غير مباشرة، أو الذي يكشف لك أرقاما فاجعة عن نسب البطالة وسواها. 
ب‌. موضوعات فيها قدر كبير من الذاتية، على غرار تلك الموضوعات التي تتحدث عن تجارب مع المرور أو الخطوط السعودية، إذ تتحول القضية إلى موضوع صحفي. وهذه تعج بها كل صحفنا دون استثناء، وبعضها تحتل مساحات طويلة. وهناك صحفيون وكتاب زوايا يمزجون بين الشخصي والعام، ولهذا تختلط لديهم الأولويات إذ إن تأخيره عن رحلة للخطوط السعودية ربع ساعة أو أقل أو أكثر، يمثل بالنسبة إليه قضية مهمة. لكن مسألة حرمان موظفي الصيانة في جميع المناطق ـ في قطاع مهم _ من التمتع بإجازاتهم لا تستلفت انتباهه، لأن الأمر لا يمسه بشكل شخصي. وهكذا تتسطح الأفكار، في الصحف المتعبة، لأن الأمر أيضا لا يخضع لضابط واضح يفصل بين الخاص والعام، أو على الأقل يطور الخاص كي يرقى إلى أن يكون موضوعا تتم مناقشته باعتباره موضوعا عاما. 
هنا تبرز أهمية وجود الفكرة، إذ مع توفر الفكرة الجيدة، يمكن أن تكون الموضوعات المناسباتية فرصة رحبة لمناقشة موضوعات وقضايا مهمة مع عدم التخلي عن خيار التميز، الذي يأتي من خلال رصد الموضوعات، والبحث عن أفكار تواكبها. 
ولعل المراقب، لن يعدم أن يرصد أكثر من صحيفة تعاني أصلا من غياب الأجندة الخاصة بالمناسبات والأولويات. 
بل إن قطاعات لا تنفك تكرر تبرمها من بعض الصحف، نتيجة غياب التخطيط للمناسبات. ومن تلك الأمور التي ترصدها أجهزة العلاقات العامة وتكاد لا تدخل إدارة من تلك الإدارات إلا وتسمع جملة من القصص والشواهد الشبيهة: عندما تقرر الصحيفة الفلانية أن تتابع موضوعا معينا قبل المناسبة بـ 24 ساعة وأحيانا أقل، بينما المعلومات حول الحدث وموقعه موجودة قبل هذا بفترة كافية. المتغير الوحيد، أن المعني بالتخطيط والمتابعة اكتشف أهمية المناسبة، وقرر قبل الحدث بساعات أن يسابق الزمن. 
هنا نشهد بكل أسف تكالبا على المادة الجاهزة، وغير المبذول فيها أي جهد. وغالبا ما يذيل كل ذلك باسم المحرر، الذي لم يكلف نفسه سوى عناء الذهاب لإحضار المادة والصور، هذا إن لم يتم إرسالها إليه في مكتبه. 
ومن خلال معضلة كهذه تبدو أهمية صانع الأفكار، وهي مهمة لا بد أن يضطلع بها شخص بل أكثر داخل الصحيفة، مع تفريغه لهذا الأمر، وعدم تهميش المسألة، أو منحها لشخص ربما لا يدرك أهمية المكان الذي يتصدى له. 
وعلى رئيس التحرير، أن يكون مدركا أهمية هذا الإنسان، وأن يضيف إليهم أناسا آخرين، يصبحون جزءاً مهما من إدارته، ويتمتعون بالمزايا التي تحفزهم على أداء أدوارهم بالشكل الذي يحقق النجاح للمطبوعة. 
وأفترض أن تتمتع الجريدة بأكثر من شخص تتركز مهمته في الخلود إلى الكم المتاح أمامه من وسائط الإعلام وأوعية المعلومات المختلفة. إضافة إلى صياغته أجندة واضحة تتعلق بالأحداث مع تقسيمها حسب ثباتها وأهميتها على مدار العام. 
بعد ذلك يأتي دور إضافة أي أحداث تستجد من خلال ما يرد عبر وسائل الإعلام المختلفة، أو بقية أوعية المعلومات الأخرى. 
وهنا تنتهي المرحلة الأولى من عمل صانع الأفكار. وهي بالمناسبة مرحلة متجددة وليست مقتصرة على وقت أو فترة معينة، بل هي مستمرة. 
أما المرحلة الثانية فتتمثل في ترجمة كل هذه الأمور على هيئة خطط طويلة وقصيرة، يتم من خلالها اقتراح خطة توضع بين يدي رئيس التحرير تتعلق بالآتي: 
أولا: تحديد أبرز الموضوعات التي تحتاج إليها الجريدة، وتأخذ هذه الخطة شكلا شهريا ودوريا. 
ثانيا: تحديد الموضوعات أو المناسبات التي تحتاج لانتداب شخص من الجريدة لمتابعتها، إضافة إلى رصد الدعوات التي تصل للجريدة وتوجيهها نحو وجهتها السليمة.


ماهية الفكرة الصحفية؟



علينا هنا أن نتفق على أن الفكرة الصحفية هي مجموعة النقاط التي يضعها أو يقترحها رئيس التحرير أو نائب رئيس التحرير أو مدير التحرير أو المشرف على هذا القسم أو ذاك ..الخ. ويطالب بتنفيذها من خلال العناصر التي يتم تحديدها سلفا. 
مع اقتراح ملامح مهمة تتعلق بتحديد ما هو مطلوب الوصول إليه. إضافة إلى المصادر التي يمكن استقاء مزيد من المعلومات من خلالها. 
ويمكن أن تتم صناعة الفكرة في البداية من خلال شخص واحد، ولكن من الضروري أيضا أن تكون هناك رؤى لأشخاص آخرين يدخل من ضمنهم المحرر أو المحررون الذين يفترض أن يباشروا التنفيذ. 
وهذه يمكن الوصول إلى صياغتها من خلال الاجتماعات التي تعقدها الإدارة في الصحيفة، والتي يتم من خلالها بلورة هذه الأفكار، ومن ثم توجيهها للأقسام لمتابعتها. مع عدم التخلي عن الدور الرقابي لمسألة التنفيذ الذي ينبغي أن يكون محددا في فترة زمنية معقولة. 
وفي رأيي أن أبرز مزايا الفكرة الجيدة ما يلي: 
1. الجودة والجدة في الطرح والتناول. 
2. القابلية للتنفيذ، وعدم وجود ما يعيق. 
3. إفساح الفرصة المناسبة من ناحية الوقت للتنفيذ. 
4. إتاحة الإمكانات المادية والمعنوية التي تجعل النجاح يغدو مميزا. 
ويساعد وجود الفكرة المميزة فيما يلي: 
أولا: تخفيف الضغط على المطبوعة، بحيث تكون مهيأة للمناسبات والأحداث قبل وقوعها بشكل كاف. 
ثانيا: إعطاء الفرصة لقيادات الجريدة لممارسة أدوارها القيادية، دون الانشغال في التفاصيل الصغيرة. 
ثالثا: الارتقاء بالمطبوعة وجعلها قادرة على التحرك بمرونة أكبر. بل وحتى مواجهة الأحداث الطارئة والسباقات اليومية بجياد نشيطة ومرتاحة وغير منهكة من كثرة الأعمال. 
رابعا: القضاء على التشتت وتوزيع المهام والجهود، بحيث لا يتم الجور على النشيط نتيجة نشاطه وتجاوبه مع ما تطلبه منه مطبوعته، في الوقت الذي يوجد فيه أفراد ربما يعانون من قلة العمل ويتعللون بعدم وجود أفكار أو مهام ملقاة على عواتقهم.


صفات صانع الفكرة

نستطيع هنا أن نضع جملة من الصفات التي ينبغي أن تتوافر في صانع الفكرة، بعضها يتعلق بالجوانب المهنية، والمعرفة التامة بعملية إنتاج المطبوعة. والبعض الآخر يتعلق بمهارات إدارية معينة لها علاقة بمعرفة كيفية إدارة الفريق. ومن هنا فمن الضروري أن يكون صانع الفكرة صاحب خبرة مميزة في العمل الصحفي بشكليه الميداني والمكتبي، إضافة إلى سلسلة من الصفات بينها: القدرة الذهنية، التمتع باهتمامات وطاقات واسعة، القدرة على التخاطب والتفاهم، النضج، القدرات الإدارية. (فتحي، 2000). ومن ذلك أيضا الإلمام بأمور عدة بينها: أهداف العمل الصحفي ومبادئه وغاياته، الهيكل التنظيمي للمطبوعة أو المؤسسة التي يعمل فيها، الواجبات والمسؤوليات، سياسات العمل وأساليبه ولوائحه وإجراءاته، مبادئ أساسية في الاقتصاد وأساليب الإدارة العلمية، التخطيط ووضع الجداول الزمنية للمراقبة، قوة الشخصية ومستلزمات تطويرها، فن التفكير المتجدد والإبداعي وأساليبه العلمية، مبادئ وأساليب العلاقات الإنسانية (فتحي، مرجع سابق). ويمكن القول باختصار أن من الضروري الاستفادة من كل أساليب تطوير المهارات الإدارية والإبداعية في رسم شخصية صانع الأفكار. (أبو شيخة، مرجع سابق).
التوصيات
ظهر فيما سبق أن غرق بعض الصحف، أو عدم ثبات مستواها، نابع بالدرجة الأولى من عدم وجود من يتفرغ لمنح الصحيفة أفكار جيدة، ويعيد صياغة ما يحيله عليه رئيس التحرير من أفكارا. إضافة إلى عدم وجود الأدوات التي تنفذ الفكرة بالشكل السليم، وعليه فإن هذه الورقة توصي بما يلي: 
1. من الضروري أن تنحو الصحيفة باتجاه تفريغ طاقم كامل لديها مهمته الأساسية صناعة الأفكار الصحفية. مع عدم انشغال هذا الطاقم بالتفاصيل اليومية الخاصة بإنتاج المطبوعة. 
2. منح هذا الطاقم إمكانات تتيح له الاستفادة من كافة أوعية المعلومات المطلوبة. 
3. منحهم صلاحيات ترجمة الأفكار، من خلال التخطيط لاستخدام كافة الأشكال والقوالب الصحفية. 
4. أهمية إشعار كتاب صفحة الرأي والزوايا في الجريدة أنهم جزء من الصحيفة، وإطلاعهم بشكل مستمر على خطط الجريدة والموضوعات التي ستحتل أجندتها قبل تاريخ النشر بفترة كافية. 
5. إعتبار القارئ عنصرا فاعلا، ومصدرا رئيسا للأفكار، سواء من خلال الاتصالات الهاتفية، أو الرسائل البريدية التي تتضمن في العادة هموما هي في أساسها مادة مهمة بالنسبة للمطبوعة، ويمكن أن تكون أساسا لموضوع لم تكن لتفوز به، في حالة عدم عنايتها بالقارئ. 
6. وعي رئيس التحرير بأهمية توظيف الكوادر التي لديه واستغلالها بالشكل المثالي، مع مراعاة وضع توصيف واضح للمهام، يضع ضمن الأولويات الفريق المعني بصياغة الأفكار. 
7. ربط هذا الفريق وإطلاعه بشكل دائم على مؤشرات التوزيع، موضحا فيها الأعداد الأكثر بيعا، والأقل، إضافة إلى تزويدهم بنسخ من رسائل القراء التي تتضمن ردود أفعال إيجابية او سلبية. 
8. تكليف الفريق بالاجتماع كل أسبوع على الأقل مع رؤساء الأقسام ـ على حدة ومجتمعين أيضا ـ في جلسة تفكير مسموع تتضمن مرئياتهم عن النتائج التي تم تحقيقها والعوائق التي واجهها مرؤسوهم للبحث في كيفية تذليلها. 
9. الإلحاح بشكل دائم، على ضرورة تخصص الصحفي، والقضاء بشكل تدريجي على الصحفي الشامل الذي تراه مشتتا، تارة يكون في مناسبة ذات طابع علمي، وأخرى تراه يغطي مناسبة ثقافية أو حتى ذات صبغة سياسية. 
10. إعادة النظر بين الحين والآخر في المزايا التي يحصل عليها الصحفيون كل في مجاله. والبحث دوما عن الحوافز التي تساعد على تجويدهم لأعمالهم، وحفزهم على تقديم المزيد من الأعمال. 
11. معاقبة الشخص المقصر في تنفيذ ما يسند إليه من عمل، إذ مع غياب هذا الحزم، يصيب السأم من يعمل، ولا يشعر بروح المنافسة. خاصة إذا كان ذلك مترافقا مع عدم وجود حوافز حقيقية. 
12. السعي الجاد لتطوير مهارات الصحفيين وترقيتها بكافة الطرق. من خلال معهد خاص لتطوير المهارات الصحفية المختلفة. 
13. تنفيذ سلسلة من الدورات للكادر الموجود في الجريدة في إدارة الوقت، وكذلك كيفية الاستفادة من أوعية المعلومات. 
14. عمل دورات صحفية للمراسلين في المناطق النائية، مع ضرورة ربطهم بالصحيفة عن طريق الإنترنت، والقضاء نهائيا على الرسائل الفاكسية، إذ إن المراسل الذي يرسل عن طريق الفاكس ، لا يبذل في الغالب جهدا في مادته، عدا عناء تسليمها من إدارة العلاقات العامة ووضع اسمه عليها. 
15. الالتفات إلى المصورين الموجودين في الصحف، وإعطائهم دورات صحفية، حتى يتمكنوا من تقدير أهمية الصورة باعتبارها عنصرا أهم في بعض الأحيان من المادة المكتوبة. 
16. زيادة البحث في كيفية تطوير الفكرة الصحفية وصناعتها، وعقد لقاءات دورية لكادر الجريدة من محررين وكتّاب لتقويم التجربة. 
17. اللجوء إلى ترجمة الدراسات والنتائج التي تكشفها شركات التوزيع، باعتبار ذلك من الوسائل المتاحة لمعرفة مزاج القارئ وتوجهاته.